ظهر اهتمام الرواية العراقية بالمكان السردي مع بداية نضوج الهوية السردية للرواية العراقية ،تحديدا في رواية (النخلة والجيران) للروائي غائب طعمة فرمان (1966 ) لما اتصفت به من نضوج فني وموضوعي واضح شكل انطلاقة فنية وادبية مهمة لما بعدها ، حيث تمكن الروائي من توظيف المكان السردي (الحي الشعبي) كبؤرة لنمو وتطور الاحداث ، و الشخصيات الرئيسة ، ما اضفى على فضاء الرواية (المبنى) جمالية فنية ورمزية عالية من خلال ما يولده فضاء المكان من دلالات رمزية > النخلة ،الاسطبل – وثقافية > كالمقهى ،والحي، وبيت سليمة الخبازة، وهو ما منح الروائي صفة السبق الفني في رسم جمالية امتدادات المكان السردي بدرجة غاية في الروعة ، ومع تطور هذا الاسلوب في الرواية ، اخذ المكان يأخذ صور وفضاءات فنية وسردية مختلفة مهمة وحيوية لما يولده من شحنات لغوية ونفسية وجمالية فاعله ما اعطى للمكان حضوره الحقيقي صفة ( بنية) لها امتداد وتراكم تأريخي ، ولغوي، وهوية ثقافية تفرض وجودها على خطاطة الشكل الروائي العام في الرواية العراقية ، دفعنا للحفر عميقا في تجليات صورة المكان السردي وتأثيراته السسيو فنية في نتاجاتنا السردية خصوصا في ظل الانفتاح والتطور التقني للرواية العراقية ما بعد 2003. للوقوف على ابرز ملامح هذه الصور والتجليات السردية في النتاجات الحديثة وإبراز خصائصها الفنية والتقنية . اختيارنا لرواية بائع السكاكر للشهيد علاء مشذوب ،الصادرة عن دار نينوى ، لسنة 2018 ، كونها واحدة من الروايات التي تتخذ من المكان السردي تحديا ثقافيا و فنيا ، ورمزيا (بؤرة) حيث شكل المكان السردي للشهيد انطلاقة حقيقية فاعلة ومؤثرة حين اختار مدينة (كربلاء) لتكون محورا لرواياته ، دفع ثمنها حياته حيث وفق في استثمار المكان السردي : مدينة / حي / شارع كبؤرة مركزية لتناسل الاحداث، وتشابك العلاقات ، وتقاطعها ، وتطور الشخصيات وتداعياتها ، ليكون حاضرا ككيان له لغته وأناسقه الممتدة في الابنية والفراغات والرموز ، وقد رسخ هذا الاسلوب بعدة روايات ، ستكون محور دراستنا القادمة كرواية حمام اليهودي ،جمهورية باب الخان ، وبائع السكاكر والتي اجتهد الكاتب لتشكل (ثلاثية ) المكان عبر تتابع زمني لأحداثها ،وفق نمط سردي يتخذ من المكان الموقد الذي يشعل فضاء الاحداث والشخصيات ، متأثرا بالروائي الكبير نجيب محفوظ وثلاثية المشهورة عن المكان .
تقوم الية السرد المتبعة في تشيد المتن الحكائيئ و المبنى الحكائي على ثنائية الحفر ، والاستنطاق في ذاكرات المكان السردي ليكون شاهدا حيا يحكي ما حدث ويحدث من تحولات سياسية وثقافية وجمالية داخل المكان والذي غالبا ما يكون فعل الروي فيها وفق تقنية ( الافلاش باك) من النهاية الى البداية وفق نمط التداعي الحر لذاكرات متعددة ركنها الرئيس هو المكان كمحفز اساسي لشحن واستدعاء ذاكرات ابطاله التي اضمرها المكان بين جدرانه واتربته ،ولكونه مكاننا تاريخيا، لذا غالبا ما يكون خاضعا لصراعات نفسية واجتماعية دامية وبشعة هدفها الوحيد تجريد المكان من حيادتيه الجمالية و الطبيعة والفنية و استغلاله لتأجيج صراعات ثقافية وتاريخية مفتعلة (كتبت كل هذا من اجل أن انزع كل ما يربطني بالمكان وفي الوقت نفسه ليكون جزء المرآة الذي كنته والذي يمثل هموم وآلام كثيرة من افراد الشعب العراقي )ص6.
تضعنا الرواية امام مشهد (درامتيكي) ممسرح لسياق صورة المكان التي نسخها الكثير من العراقيين في ذاكرتهم عن المكان وهي صورة الهجرة القسرية والصراعات التي صنعتها الحروب ،والصراعات الاثنية والمذهبية لدول الجوار أو دول غربية اخرى للخلاص من جحيم الوضع المصاب بهستيريا الحروب والقمع والاقصاء لكل من لا يملك سلاحا للدفاع عن نفسة وهو ما يصفه لنا بطل الرواية في مشهد ركوب الباص المخصص للاجئي رفحاء لحظتها ذكرياته الاولى ( اصطفت الحافلات الكبيرة والمكيفة أمام الغيتو الذي يجمعنا قسرا … تقدمتني عائلة مكونة من أب و أم بالإضافة إلى أطفال وصبية وشباب . نظرت إلى الاطفال وتذكرت تاريخ عائلتي )ص6 ليشكل هذا الحدث بداية التداعي الحر للذكريات .
تأخذ لحظات الطفولة الحيز الاكبر لما تتركه في الذات البشرية من اثر روحي وثقافي عميق داخل اللاوعي الجمعي لدى جميع البشر خصوصا لمن عاش في بيئة يكون المكان فيها بمثابة الحاضنة المهيمنة والفاعلة لتوليد شحنة الذاكرات لكل من عاش في كنفه، (عدنا ادراجنا الى مدينتنا الغارقة في القدم ،وعادت إلينا ذاكراتنا التي تعتقت كأننا فارقناها منذ سنين )89 فالمكان من يهب احلامهم ، ويشكل لغتهم و تصوراتهم عن انفسهم وهو ما يتم استنطاقه من خلال صورة المكان :البيت ،الشارع ،البساتين ،المؤسسات ،الرموز ، المدرسة ،الحي ، المدن ، الحمامات ،المقاهي ،الاسواق لنسج خيوط احداثها .
شكل تطور الاحداث نسق تتابع زمني بسيط دائري مغلق ما بين البدايات والنهايات ليعكس شكل وروح مدننا من الداخل والخارج وكأننا امام ما يعرف بزمكانية مندرجة ضمن ثنائية ابدية هي الوجود والعدم ،وهو ما اتصفت به جدلية تطور الاحداث داخل المكان الواحد : ، خروج /عودة ، ماضي/ مكان ، حاضر / مكان ، شخصية/ مكان، طقوس/ مكان ، تأريخ/ مكان ، ،احداث / مكان هوية/مكان ، ذاكرة/ مكان ) ليشكل بؤرة للتواصل ما بين مكان متساوق مع زمن التداعي الوجودي لحاضر مندرج في تفاصيل المكان المكتظ بالصراعات و ماضي احلام شخوصه بالخلاص من هول الصراعات (كانت حبيبتي تشكو من ضيق الأمكنة في مدينتي ،وشح الانهار وجفاف الاجواء ، وكنت أعلم أن المدن التي لا تجري وسطها الانهار مدن صماء ،.. المدن التي تدور حول المراقد الدينية مدن خائفة من العطش)ص75 .
قد لا يخلو مكان في العالم من نمطية صراع الهويات الثقافية (المكونات ) لكن لخصوبة المكان العراقي بما يحمله من جذور تاريخية مكتظة بالصراعات والتحولات السياسية ،والدينية ،والعرقية كان المكان (المدينة ) في السردية العراقية ( بؤرة) لتوليد اغلب هذه الحكايات ، بل واحد اهم عناصرها و الخيط الناظم لفضاءات حضورها السردي بمجمل تفاصيله ، ليكون المكان هو الفاعل المهيمن على كل شيء وهو ما جعل من بطال علاء (المتوكل) شخصية مقهورة بسبب انتمائها المكاني ، يفصل من الجامعة لأنه ينتمي لمكان معادا للسلطة ، ثم يعتقل لأنه من مكان عرف بمعادته للسلطة على الرغم من ان البطل شخصية احلامها بعيدة عن الهم السياسي وتداعياته ، شخصية تبحث عن الجمال تحلم بكتابة رواية ،أن تبادله حبيبته الحب ، أن تنتهي الحروب ،لكن تتداعى جميع احلامه وتندثر كبقية سكان المدينة بعد اتهامه بالخيانة مما دفعه للهجرة خوفا من مسح ذاكرة المكان وهي نهاية الاحداث …. . فمن قتل حلم علاء مشذوب .. كان همه الوحيد محو ذاكرة المكان من احلام الاجيال القادمة (انني ذاهب مع الذاهبين إلى حيث اللاعودة ) النهاية .