18 ديسمبر، 2024 7:56 م

السرد معمارية المكان داخل الشخصية في رواية (جمهورية باب الخان)

السرد معمارية المكان داخل الشخصية في رواية (جمهورية باب الخان)

(السرد معمارية المكان داخل الشخصية في رواية (جمهورية باب الخان) لعلاء مشذوب. لمن يحب ان يقرأ.
السرد بمعناه الفني والجمالي (الادبي) هو الانتقال بالتوثيق العفوي المباشر لمعطيات الواقع اليومي النابض بالفعل الإنساني في أبعاده الاجتماعية والفردية إلى محاولة بناء رؤى فنية وجمالية سردية جديدة، وذلك لا يتم ألا وفق فهم اشكالي عميق لنوعية وطبيعة الوجود الانساني من خلال تحليل اشكال السلوك ومضامينه الداخلية والخارجية لتتم بعدها احداث نقلة نوعية في مسار الحركة السردية والفكرية التي تضمن عدم وقوع السرد في وادي العفوية والتسطيح الذي قد يوهم كل من يمارس حكي الوقائع أنه يكتب رواية .
شك وانفعال روحي وفكري مبهم ينساب في طقوس اليومي ليتسرب إلى العادي والمألوف وما هو سائد في حياة الناس دون وعي منهم او تساؤل عن مصدر هذا الانفعال والشك الذي ذاب في تفاصيل وجودهم الهش، هكذا تسرد جمهورية باب الخان، لعلاء مشذوب الصادرة عن دار الفؤاد للنشر، 20017، ط1، حكاياتها التي تجري أحداثها في قلب مدينة كربلاء منطقة باب الخان بصفحاتها 313، على وفق وجهة نظر بطلها السيد عدنان المؤتمن على طقوس الولادة والموت، والحب، والصراع، ليكون شاهدا حيا على أحداث ما زلت تصلنا بالبداية، والنهاية.
ولأنها رواية تبحث في أركيولوجيا شاملة عن ذاكرات المكان والانسان معا، كانت محاولة لا تكل ولا تمل عن استنطاق ما خلف الانسان من حكايات، ودين، واساطير، وهو يلهث وراء الواقع ولقمة العيش، كما أنها محاولة تبحث في حقيقة مجردة لا نعرف عنها الكثير كونها تختبئ وراء اشكال المكان والزمان (الماضي) التي ظلت اثاره ومسمياته شاخصة بمثابة الروح التي تتنفس منها الشخصيات حقيقتها الاولى، يتم استنطاقها من خلاله الأحجار والشوارع والازقة واماكن العبادة والاسواق، يصفها السارد المهيمن في مقدمة الرواية التي عنونها برسم فضاء المكان (بقايا عبق يضوع المكان وثمة ضجيج ينبت براعمه أول الصباح، وأبواب رزق ناعسة تفتح للتو، وظلال من بقايا الليل مازالت مختبئة خلف الجدران، بينما شعاع الشمس يمد أذرعه شيئا فشيئا، ونوع من البهجة ترتسم على المنازل بشبابيكها القديمة وأبوابها الخشبية) ص7.
المسار السردي :
يبدأ المسار السردي بطيئا وفق مقتضيات النمط الحركي لشخصية البطل ونوعية المكان، كونه مسارًا مندرجًا ضمن تقنية الوصف البنورامي الذي يلتقط دقائق الاشياء وتفاصيلها المكررة في بعض الاحيان كالحجر، والبشر، القديم والجديد، الطقس، الزمن … الصوت، الصورة وهو ما يعكس رغبة (المؤلف) التي ينطلق منها السارد للوصول الى هدفين؛ هدف معلن تمثل في اظهار فضاء التنوع الانساني والثقافي والعرقي الذي يحتضنه المكان، عن طريق شخوص الرواية، سيد عدنان، اريف الارمنية، حليم، منتصر الشيوعي، الاقليات والاديان …. – وهدف مضمر مندرج في مثلوجيا المكان القديم، تمثل في التوثيق والارشفة لفضاء المكان الطقوس والعبادات والمراقد والاحداث لرسم حدود الجمهورية، كربلاء باب الخان، الفسحة، وهو ما يفسر ويحكم طبيعة الايقاع السردي البطيء للأحداث والشخصيات، وبما أن الهدف المعلن كان الرهان على توسعة فضاءات المكان وتكسير حدوده الاصلية لتجاوز حدود الجغرافيا بحدود فضاء التنوع الثقافي، والانساني بمساندة المتخيل، كان المضمر هو اعادة رسم خطاطة المكان الواقعي المحدود بلا المحدود الرمزي المتخيل لتتسع لتكون جمهورية .
تستأنف الرواية متنها السردي من بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة وصولا للحرب العراقية الايرانية، لذا كان لابد للسارد أن يتمثل ذلك الزمن وفق قوانينه الحركية البطيئة من حيث التحولات والاحداث وانماط العيش على الرغم من وجود بعض الاسهاب الممل الذي يسهم في زيادة ثقل حركية الاحداث وديناميكية الشخصية والزمن فيها (دخل سيد عدنان الى السوق طرف باب الخان ماشيا يقود دراجته الهوائية بيديه، يرتدي ثوبه المعتاد بلونه الحلبيي دون كوفية وعقال، او شال اخضر يضعه على كتفه … يرمي السلام على أصحاب المحلات ومن يفترشون عرباتهم من الفكهانية والسوق في بداية ازدحامها، وأصحاب عربات الدفع الصغيرة يخرجون من الخان والازقة ليملؤوا السوق) ص25.
الشخصية:
الرواية تسرد قصة شخصية تلبست في جسد المكان (كربلاء) كروح، تستشعر حيويته وكسله، احزانه وافراحه، وجمالياته، وقبحه، لذا كانت شخصية البطل تواكب جميع احداثها بل تبادر دائما في صناعة الحياة فيها، كان لابد لخطاطة الشخصية وفق مقتضى بهذا الحجم أن تكون صورة متعددة الابعاد والدلالات (عميقة) لتكون قادرة على تمثل كل التحولات داخل معمارية المكان وهو ما جاءت عليه شخصية بطل الرواية (عدنان كامل) الاربعيني صاحب النسب الذي يعود للسادة من آل بيت النبوة، شخصية تمتهن العمل التجاري، تعطي للفقراء تساهم في حل مشاكل الجميع، تهتم بالثقافة والمثقفين والاشراف كما تعرف جميع الشقاوات، واصحاب المحلات، والمشردين، واللصوص .
وهو ما يكشف عن تبنى استراتيجية نصية تعتمد على شخصية ثيمية مركزية منبثقة من روح معمارية المكان بكل انكساراته، وتناقضاته وجذوره (كان سيد عدنان يشم رائحة أبيه وهو يتفقد هذا المكان الموغل بالقدم ) ص40 . شخصية تتحسس اوجاع المكان داخلها تتحمل عبء تحديات (البحث) و(الكشف) و(استرداد) ما ضاع وغيبته يد الزمن (والحفاظ) على ما تحقق من مكتسبات، بالرغم من قوة التحديات الخارجية المحيطة والتي دائما ما تفرض على الشخصية أن تعيش مخاوفها الداخلة من القادم من، صراعات سياسية، ودينية، ومذهبية والتعاطي والتفاعل والانفعال مع ما يحدث، ما يضفي عليها صفة المسؤول والزعيم الذي يمتلك حق التشخيص والبت في اغلب شؤن الناس اليومية، وتفسير وتحليل حتى التناقضات والثنائيات المجردة الخاصة والعامة والعميقة، التي تفسر الظاهر بالخفي، والعلني بالسري، والجلي بالمبهم، لتكون بمستوى الطموح لاسيما حين يضعنا السارد الضمني أمام صورة والد سيد عدنان وهي تتوسط المكتب التجاري ما بين صورة الملك فيصل، والزعيم عبد الكريم قاسم، كمعادل سيميائي روحي للدلالة على قوة النسب والمكانة الاجتماعية التي ولد من رحمها سيد عدنان، انها صورة الاصل النقي (الانموذج) الذي انبثق من طبيعة الثقافة الجمعية التي يحتضنها المكان والتي دائما ما تؤصل لوجودها عن طريق ثنائية جدلية بين الانموذج المكان الماضي كربلاء المقدسة المتصالحة مع الجميع، والنسخة، شخصية سيد عدنان المسكون بأسئلة الحاضر والمستقبل، وهو ما يعزز من قوة حضور ماضي الشخصية ودلالاتها الايحائية داخل خطاطة المكان.
كانت شخصية سيد عدنان، تنمو وفق اتجاهين مختلفين لكنهما متوازيان الاول؛ اتجاه الماضي، الصورة والاصل، عبء النسب ومكانة الاب الاجتماعية داخل المكان، والثاني باتجاه النسخة التي لا بد لها ان تختلف عن الاصل في جزئيات معينة لتكون الحاضر واضطراباته الوجودية داخل جسد المكان الاليف والحميمي، المنسجم مع شخوصه، (تمنى في سره أن يتحول هذا المكان الذي يتوسد قلب طرف باب الخان إلى متحف أثري يحكي قصة وتاريخ دخول الكهرباء الى مدينة كربلاء) ص46.
معمارية المكان:
تتشكل معمارية المكان الروائي في فصول الرواية وفق نفس المنطق والتصور الذي تشكلت به خطاطة الشخصية، أي وفق جدلية العلاقة ما بين الماضي التاريخ، والتراث الهوية الانموذج بمواجهة الحاضر، الراهن، واليومي، والمتغير الهويات النامية المنسوخة المتصارعة مع بعضها وهو ما يرسم شكل العلاقة الجدلية ما بين حضور المكان على أنه هوية وجذور تاريخية (صورة) تنمو داخل شخصيات تحاول افتعال احداث راهنة لإحداث تحول في هوية المكان ليتسنى لها تشيد أثرها الخاص وانموذجها الجديد .
تبدأ جدلية هذه العلاقات تنسج وجودها داخل فضاء المكان من الفصل الثاني الذي اطلق عليه اسم (المجزرة) كعنوان له دلالاته المباشرة على حجم التحديات التي تحيط بكل وجودنا المادي والروحي وفق العلاقة، ما بين الماضي والحاضر وهو ما كشفته قصة (أريف الارمنية) المنطلق الاول في رسم كونية الفضاء المكاني الذي سعت الرواية في تشييده كحقيقة قارة واصيلة من خلال المكان وعلاقته بشخوصه، لذا ظل الفعل السردي، مرتبط بشكل مباشر بسيرورة المكان والشخصيات التي تنفعل داخله، وما يستدعي من السارد تعدد مستويات الوجود الثقافي داخل معمارية المكان الذي يتغلغل بالضرورة في لا شعور الشخصية المتلبسة في تفاصيل المكان الاول.
تحكي اريف التي تعمل قابلة مأذونة في المدينة لسيد عدنان قصة المجزرة التي تعرضت لها طائفتها على يد العثمانيين، بالتزامن مع مخاض الولادة لزوجة هذال اخي سيد عدنان في مشهدية فنية جميلة امتزجت فيها الام اريف الارمنية المسيحية وهي تروي وحشية المجزرة مع الام الطلق والولادة لزوجة هذال المسلمة لتشكل لحظة مفارقة لصورة امتزجت فيها لحظات الموت مع الحياة والحزن مع الفرح وفق مقتضى العلاقة ما بين المكان وشخوصه الفاعلة (ثمة أمور تقودنا ونظن أنفسنا نذهب إليها بقرارنا) ص49، والتي اتقن الروائي صناعتها بحرفية عالية امتزج فيها الماضي مع الحاضر (كانت اريف تتكلم وكأن مسا اصابها، وهي تتقمص دور أمها المسجاة على الفراش) ص117.
كذلك نجد صورة هذا العلاقة في الفصل الثالث الذي اتخذ من طقوس لبس السواد في شهر محرم وواقعة عاشوراء كلحظة ثيمية تجمع ما بين الماضي الانموذج والحاضر النسخة المجددة حيث تستعد مدينة كربلاء لإعادة استذكار مقتل الامام الحسين التاريخية في العاشر من كل محرم كلحظة حاضرة بحزنها ومضامينها، ليشكل الفصل الرابع لحظة مفصلية في بنية المكان وحياة سيد عدنان، لحظة التحول من زمن الانموذج، الماضي الجميل المتسق مع الحاضر، الى حاضر منفصل يبحث عن لحظات القطيعة والانقسام مع الماضي، يستشعر سيد عدنان هذا التحول أثناء زيارة صدام حسين لاحد الاسواق التجارية القديمة في مدينة كربلاء، كان النائب الاول للرئيس احمد حسن البكر آنذاك ليكون بعدها الرئيس، وما ستجلبه هذه الزيارة بعد ذلك من شؤم على المدينة والعراق واهله يصف مقدماتها من خلال تحولات المكان (ثمة غبار يملأ فضاء المكان وأسئلة دون أجوبه) ص202.
لتبدأ هذه التحولات بالتهجير للأقليات والمعارضين ونهب كل املاكهم وموت الالاف منهم، لتكتمل القطيعة ما بين الانموذج، والنسخة في الفصل الخامس والسادس وقيام الحرب العراقية الايرانية والتي ختمت احداثها باستشهاد ابن سيد عدنان قحطان في أحدى المعارك وهي اللحظة التي دشنت لواقع جديد يسعى لعدم التكامل والاتصال ما بين سيرورة الانموذج الماضي المكان الجميل الصورة مع النسخة الحاضر، وهو ما رسمته دلالات الاستشهاد التي جاءت محملة بدلالات وجودية تفسخ أواصر العلاقة الجدلية ما بين الانموذج الماضي، مع النسخة الحاضر الذي بات مشوهًا بالأحقاد والصراعات لتعلن الرواية عن نهاية الزمن الجميل زمن الشخصية العراقية المحبة والمتسامحة والقوية التي تديم اواصر التكامل مع المكان زمن سيد عدنان الذي رغم بساطته وبطء الحياة فيه الا انه كان ينبض بالحب والالفة والتكاتف الذي قتلته وغيبته الصراعات السياسية والعرقية والدينية بعد سقوط الملكية على يد اتباع الجمهورية (نظر إلى صورة الملك فيصل وتذكر كل تأريخه الذي قرأ بعضه وسمع البعض الاخر من المحيطين به وترحم عليه، ومن ثم أنتقل الى صورة أبيه سيد كامل وعاد به الزمن الى تلك الأيام الجميلة، وكأنه يعيد سيرة حياته، لم يكن للزمن معنى أمام الذاكرة الحافلة بالفرح، عبر بنظره الى صورة الزعيم عبد الكريم قاسم بزيه العسكري وامتلأت عيناه شررا، غرز عينيه في صورته حتى كاد يخترقها سقطت الصورة على الارض وتحطم زجاجها دون ان يحيد بنظره عنها) ص312 .
لقد كانت محاولتنا في هذه الورقة النقدية تقتصر على رصد وتحليل وتفسير مظاهر وتجليات الشخصية داخل النص السردي من خلال نقطة ارتكازها وانطلاقها من معمارية المكان الجسد الثقافي الانموذج الذي خرجنا من رحمه حاملين جيناته الثقافية الموروثة داخل الشخصية، كما تم وصفه وسرده وكما صاغته لغة المكان وجسدته احداثه وعلاقاته المجتمعية الموروثة داخل الشخصية، لذا أننا ووفق انهماكنا في رصد العلاقات الكبرى المعلنة كنا نحاول أن نجتهد لإظهار العلاقات الدقيقة التي تعكس تأثير معمارية المكان داخل وعي الشخصية مما جعلنا ذلك نقف امام صورة واحدة تمثل صورة المكان- البطل الانموذج بموت أثره قحطان انتهت روح مدينة كانت تنمو وتتجدد بدون اكراهات او صدامات، لكن تلاعبت بها يد الحاضر الاطماع والاحقاد التاريخية، لذا انتهت جمهورية باب الخان حين غرست القوى السياسية مخالبها في روح المكان والانسان العراقي المبادر للجمال والحب وماتت معه اسطورة الانموذج المكان البطل لتحل محلها اسطورة القومية والمذهب.