قبلَ نهايةِ السنةِ: فد نفرين حسسّ بدون بلانه …
لأوّلِ مرةٍ في حياتِهِ قامَ الملحنُ الكبيرُ (بليغ حمدي) بكتابةِ وتلحينِ أغنيةِ (أنا بعشقك)، وكانَ طموحُ بليغٍ أنْ تغنيَ أمُّ كلثومٍ هذهِ الإغنيةَ قبلَ وفاتها عام ١٩٧٥، وعندَمَا عرضَ بليغٌ الأغنيةَ على أمِّ كلثومٍ رفضَتْ غناءَهَا وقالَتْ: (أي ده… كلماتُ الأغنيةٍ خفيفةٌ أوي ولا ترتقي إلى ذوقِ الجمهورِ).
توفيَّتْ أمُّ كلثومٍ وبقَتْ الأغنيةُ عشرِ سنواتٍ حبيسةَ بليغِ حمدي الذي كانَ يحملُ خوفاً على ذوقِ الجمهورِ من الأغنيةِ كما تخيّلَتْ لهُ أمُّ كلثومٍ، حتى جاءَ عامُ ١٩٨٥ وقدّمَ الأغنيةَ للفنانةِ السوريةِ ميادةِ حناوي وغنّتْهَا بطريقةٍ إحترافيةٍ غايةٍ في الجمالِ لا تزالُ عالقةً في أذهانِ الجميعِ…
في عامِ (١٩٥٠) شاركَ الفنانُ الكبيرُ فريدُ الأطرشِ ببطولةِ فلمِ (أكبر كذبة) وكانَ من ضمنِ مشاركتِهِ في الفلمِ تقديمُ أغنيةِ (يا عواذل فلفلوا ما قالي وقولتله) التي كتبَهَا الشاعرُ أبو السعودِ الأبياري وقامَ الأطرشُ بتلحِينِهَا بنفسِهِ وعندَ عرضِ الفلمِ قامتْ الدنيا ولمْ تقعدْ بسببِ إحتواءِ الفلمِ على أغنيةِ يا عواذل فلفلوا، التي اعتبرَهَا النقادُ حينَهَا إقدامَ الاطرشِ على الانتحارِ الفنيّ لِمَا اعتبرُوهُ من إساءةٍ للذائقةِ الفنيّةِ للجمهورِ وهبوطٍ مدويٍّ لكلماتِ الأغنيةِ المصريّةِ، حتّى تمَّ منعَهَا في الإذاعةِ المصريّةِ وقدْ جاءَ هذا المنعُ بأمرٍ من رئيسِ الوزراءِ والزعيمِ الوطنيّ حينَهَا مصطفى باشا النّحاس بدعوى الحفاظِ على الذوقِ العام، علماً بأنَّ الأغنيةَ لاتزالُ إلى الآن وبعدَ مرورِ (٧٢) عامًا تُشَكِّلُ جماليةً فنيةً في غايةَ الرّوعةِ ولازالتْ الأجيالُ المتعاقبةُ ترددُهَا وتستمتعُ بكلماتِهَا وألحانِهَا.
حكى لي أستاذٌ كانَ متذوقاً للفنِّ في سبعينياتِ القرنِ الماضي أنَّ الفنانَ القديرَ (سعدون جابر) قدْ أعادَ تسجيلَ أغنيةِ(عيني عينك) وأرجعَ السببَ إلى أنَّ لجنةَ الفحصِ الفنيّ -التي كانتْ يترأسُهَا وزيرُ الإعلامِ والثقافةِ في ذلكَ الوقتِ والتي تقومُ بفحصِ كلَّ الأغاني قبلَ عرضِهَا على شاشةِ التلفزيون أو أثيرِ الإذاعةِ- قدْ منعَتْ الأغنيةَ من البثِّ بسببِ أنَّ الفنانَ (سعدون جابر) قدْ أبقى أحدَ أزرارِ قميصِهِ من الجهةِ العليا مفتوحةً ممّا تتخيلَ للُجنةِ بأنَّ هذهِ الحالةَ الفرديةَ رُبّمَا تعممُ على الشبابِ العراقي وتصبحُ عمليةُ فتحِ الأزرارِ (مودةً) يَتنقلُهَا الجميعُ، لذا تمَّ إلغاءُ عرضِ الأغنيةِ وإعادةُ تسجيلِهَا مرةً ثانيةً على أنْ يتمَّ غلقُ جميعِ أزرارِ القميصِ من قبلِ الفنانِ سعدون جابر، وها هي أغنيةُ (عيني عينك) حاضرةٌ وجاهزةٌ في كلِّ وقتٍ وحينٍ وبكلِّ جماليةٍ راقيةٍ وبالإمكانِ مشاهدتِهَا على اليوتيوب لنرى الفنانَ القديرَ سعدون جابر وهو يلبسُ القاطَ والرباطَ وبكلِّ قيافتِهِ المعهودةِ بعدَ أنْ تمَّ إقفالُ جميعِ الأزرارِ بقميصِهِ.
هنا نأتي لنعقدَ مقارنةً فنيةً وإجتماعيةً بينَ ما قدْ مضى وبينَ ما هو موجودٌ الآنَ فكلماتُ الأغاني يا ستَ أمِّ كلثومٍ باتتْ تُكْتَبُ على أسماءِ الفواكهِ والخضرواتِ المسبوقتانِ بياءِ النّداءِ، يا البرتقالة ويا التفاحة ويا البذنجانية وأنتِ يا ستُ لم تعجبْكِ كلماتِ أنا بعشقك خوفاً منكِ على ذائقةِ الجمهورِ، فهلْ الخللُ بذوقِ الجمهورِ الذي باتَ يفكرُ بمعدتِهِ وليسَ بعقلِهِ وأصبحَ يعشقُ الفواكهَ والخضرواتِ بدلاً من الرومانسيةِ وعلاقةِ الحبِّ الشريفةِ.
وماذا كانَ يفكرُ بليغُ حمدي عندَما كتبَ ولحّنَ لنا أغنيةَ (أنا بعشقك) وهلْ كانتْ أجواءُهُ الفنيةُ مشابهةً لإجواءِ الفنانِ حسامِ الرّسامِ الذي لحّنَ وغنَّى لنا أغنيةَ (يمه لدغتني العگربة) فأيُّ العقاربِ تلكَ التي تجعلُ من الذوقِ العامِ أضحوكةً يتناقلُهَا الغريبُ قبلَ القريبِ لتمثلُ تلكَ الأغنيةُ عبثاً وعبطاً بتأريخِ العراقِ وحضارتِهِ الممتدةِ لسبعةِ آلافِ عامٍ، بينما ضلَّ بليغُ حمدي يحتفظُ بكلماتِ أغنيةِ أنا بعشقك ولَحْنِهَا الجميلِ عشرَ سنواتٍ دونَ أنْ يراهَا أو يسمعَهَا أحدٌ تخوفاً من الإساءةِ للذوقِ العامِ حتّى وضعَهَا بيدِ وحنجرةِ الفنانةِ القديرةِ ميادةِ حناوي لتوثقَهَا توثيقًا تأريخيًّا يمثلُ إضافةً جماليةً للفنِّ المصريّ والسوريّ بشكلٍ خاصٍ والفنِّ العربيّ بشكلٍ عامٍ.
والشيءُ الآخرُ المشابهة …
ماذا لو كانَ الأطرشُ حياً والنحاسُ حياً أيضاً وهما يشاهدونَ ويستمعونَ كلماتِ الأغاني الحالية فهلْ سيكتفي النحاسُ بمنعِهَا من الظهورِ في الاذاعاتِ والتلفزيونات؟ أم أنّه سيمنعُ مغنيَهَا من الظهورِ خارجَ عتبةِ البيتِ أصلاً، وسيترحم على الاطرش وأغنية يا عواذل فلفلوا وربما سيجعلها نشيداً وطنياً لجمهورية مصرَ الشقيقة، ماذا سيقولُ عندما يلتقي الموسيقارُ فريدُ الأطرشِ بعملاقِ الفنَّ التكتوكي العراقيّ السيدَ سعلوسهَ فمِنِ المؤكّدِ سيقولُ لهُ: شوف صوتي وصمملي عليه صورةً وسويلي عليه تاگ!! ومِنِ المؤكّدِ بأنّه سيلتقي بالموسيقار العالمي سعدون الساعدي وسيثني على رائعته (صمون عشرة بألف) …
هل مفرداتُ أغنيةِ ياعواذل فلفلوا في وقتها كانتْ تمثلُ إنتحارًا فنيًّا للمسيقار الأطرش فماذا لو سمعَ الأطرشُ كلماتِ أغنيةِ الفنانةِ الصاعدةِ النازلةِ (رنا وليد) وهي تقول: (أريد أخون وأريد أشوف أشون طعمج يالخيانة حتى إذا حلوة اعذرك كلمن يروح لمكانة)
اي كلمن يروح يروح لمكان …
من المؤكّدِ بأنَّ الأطرشَ حينَهَا لن يكتفيَ بالانتحارِ فنيّاً فقط بلْ سينتحرُ شخصيّاً ومن الطابقِ (١٤) بعمارتِهِ بالقاهرةِ وسيخوِّنُ الأمةَ العربيةَ كلَّهَا على كلماتِ هذهِ الأغنيةِ الهابطةِ…
نأتي إلى الأخيرِ بالموضوعِ كونَهُ الأهمَ، فيا أستاذَ سعدونَ جابرٍ فنّانَنَا الراقيّ المبدع من بعدِ ما اجبروكَ على غلقِ زرِ قميصِكَ في أغنيةِ (عيني عينك) وإعادةِ تسجيلِهَا من جديدٍ مرةً ثانيةً أصبحَ اليومُ كلَّ شيءٍ مفتوحٍ من الأعلى ومن الأسفلِ دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ فالأفواهُ مفتوحةٌ في الغلطِ والسبِّ والشتمِ حتّى على اللهِ جلَّ علاهُ دونَ رادعٍ لغلقِهَا والأمثلةُ تطولُ في ذلكَ والأدهى والأمرُّ في الموضوعِ أنَّهم رغمُ أخطائِهِم وخطاياهُم يتمُّ إطلاقُ تسميةِ المشاهيرِ عليهم، ولا نعلمُ بأيّ شيءٍ هُمْ مشهورينَ أو ماذا يقدمونَهُ كي يصبحوا على إثره مشهورينَ وتعالوا نتصفحُ التيكتك لدقائقٍ معدودةٍ لنرى العجائبَ والمصائبَ في هذا البرنامجِ التعيسِ…
حتّى التأريخِ والحضارةِ والموروثِ والقيمِ والأخلاقِ واللغةِ ولهجاتِهَا قد غيّروا مساراتِهَا يا أستاذَ سعدون بلْ حتّى ذكرياتِنَا الجميلةِ دنسوا قيمَهَا وحيثياتِهَا وحوّلوهَا إلى ولايةِ بطيخٍ فلا داعيَ للقلقِ على زرِ القميصِ مفتوحاً كانَ أم مغلقًا فالسيلُ نحوَ الهوايةِ قويٌّ وجارفٌ ولا تحدَّهُ حدودٌ أو سدودٌ…
بقيَ شيءٌ واحدٌ أريدُ قولَهُ هو من الصعبِ جداً وسطَ كلِّ ماذكرناهُ أنتَ تبقى ثابتاً محافظاً على قيمِكَ ومبادئِكَ وحتّى أخلاقِكَ فالوقتُ وقتُ اللأخلاقِ واللا مبادئِ واللا قيمِ، فكنْ ثابتًا قويًّا مهما على روج الباطل.