القسم الأول
لم يكن منبع تشريعات الإمتيازات اللامشروعة بعد الإحتلال ، إلا من مستنقع الأفكار الآسنة للمكتسبات القبيحة فوق خط الإثراء المتوقع أو المعتاد ، وفي معجم المعاني : السحت من الناس : الرغيب الواسع الجوف الذي لا يشبع من الأكل والشرب ، وهو من الفكر المنبثق من شدة الحرص على إكتساب ما خبث وقبح من المكاسب ، فلزم عنه العار ، والسحت كل مال حرام قبيح الذكر ، وهو الذي لا يحل كسبه ، لسحته البركة بالإستئصال والزوال ، بروح التفرقة والتمييز غير المسبوق بين المواطنين ، وبالإستحواذ على مقدرات الشعب وثرواته بقوات الإحتلال ، وبأنانية التمتع طمعا وجشعا بإستغلال الفرصة ، مصداقا لقول الله سبحانه (( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا )) ، متجاهلين أنهم (( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)) متناسين (( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا )) ، غير مكترثين ولا آبهين لقول رسول الله محمد (ص) (( يا ابن آدم ، إعمل ما شئت ، كما تدين تدان )) ، الراغبين في إكتساب الإمتيازات بالإدعاءات الكاذبة ، على حساب المعتقلين والسجناء السياسيين وما سبقهما وتلاهما من إمتيازات عوائل الشهداء والمفصولين السياسيين الحقيقيين والنادر وجودهم مجتمعين ؟!. وغير المعروفة أعدادهم على وجه الدقة واليقين ، الذين لا ينبغي تعويضهم ماديا ومعنويا بأعلى من حد الكفاف ، وليس إلى حد النعيم الذي لا يتحقق إلا بجهد الكادح إلى ربه كدحا فملاقيه .
إن من سبل وأساليب السياسة المخادعة في أن ( يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والإجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات ، وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون ، وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات ، التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي ) ، ما لم يترك للتطبيق الفعلي أثرا بينا وملحوظا في أي نشاط سياسي ينسجم ويتلاءم مع ما تم تثبيت وصفه دستوريا قبل الإحتلال وبعده ، حيث الخلاف بخصوص كيفية تمتع الجهات المختلفة بما ينسجم مع معتقداتها في ممارسة الحريات السياسية ، بإستثناء بداية فترة قيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في عام 1973 ، التي لم يكتب لها دوام العيش السياسي غير المؤقت على أقل تقدير ، لفقدانها مقومات إستمرار العمل المشترك ، بسبب إنعدام الثقة المتبادلة بين أحزاب الجبهة ، وإختلاف توجهات مكوناتها وعدم تقاربها في حدود قواسم العمل السياسي المشترك ، إلى الحد الذي ( يعتبر عملا تخريبيا ضد أمن الدولة كل نشاط تنظيمي أو سياسي غير مصرح به قانونا أو خارج نشاط الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ) حسب نص قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (176) في 24/2/1974 ، وذلك ما لا ينسجم ومبادئ الدستور الظاهرة في مفردات نصه ، ولعله التعبير الوافي عن نوايا عدم إستحسان العمل الجماعي ، وتوجه النزعة إلى التفرد بالحكم والسلطة إداريا وسياسيا ، بممارسة الحريات المقيدة بما ينسجم مع خط الثورة القومي التقدمي فقط .
لقد سبق للجمعيات في العهد الملكي أن كانت مقرا تأسيسيا للأحزاب ومنطلقا لممارساتها ونشاطاتها السياسية المختلفة ، ولم تظهر النصوص القانونية لتشكيلها وخضوعها لأحكامها بشكل مباشر إلا في العهد الجمهوري الأول ، حيث قانون الجمعيات رقم (1) لسنة 1960 الذي نصت المادة (30) منه على أن ( الحزب جمعية ذات هدف سياسي ، وتخضع الأحزاب إلى كافة الأحكام التي تخضع لها الجمعيات في هذا القانون ، علاوة على الأحكام الخاصة الواردة في هذا الباب ) . وظل ذلك القانون نافذا لغاية العام 2000 المتوافق مع نهاية زمن وعهد الجمهورية الرابعة ، على الرغم من عديد الأحداث التي تطلبت التعامل مع الأحزاب القائمة آنذاك ، وفي مقدمتها إنبثاق ميثاق العمل الوطني عام 1971 ، بالإستناد إلى الإتفاقيات الثنائية بين حزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم آنذاك والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي . وبعض الشخصيات ذات التوجهات القومية أو المستقلة ، خارج إطار أحكام القانون المذكور ، لسيطرة مناخ الأحداث والتجاذبات الحزبية والسياسية الداخلية والخارجية ، بسبب علاقات التناحر والإحتراب الذي ألقى بظلاله على العلاقات السياسية بين الأحزاب العراقية ، التي تجاوزتها بعض الإنجازات في مختلف المجالات ، لإثبات حسن النية وإقناع الأحزاب الأخرى على إمتلاك مقومات القدرة على إدارة شؤون الدولة وتحقيق مطالب الشعب ، ومن ذلك إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وإعادتهم إلى وظائفهم ، وإحتساب مدة الفصل السياسي خدمة لأغراض التقاعد ، وإن كانت عملية بناء الثقة صعبة ومعقدة ، ولكن الرغبة إلى تحقيق ما سيكون عليه واقع حال التوجهات السياسية في صالح الشعب والوطن ، كانت من العوامل المساعدة على إرساء الأسس الحقيقية للتعاون الإستراتيجي الجاد . ومن المؤكد أن لا تكون دوائر الإمبريالية والصهيونية مرتاحة لما تحقق أو ما سيتحقق من نتائج ذلك التعاون ، فكانت تثير بين الحين والآخر ما يشير إلى مرحلية الجبهة ، على الرغم من توفر مستلزمات نجاحها الذي أدى إلى تأييد الناس والمثقفين منهم خاصة لما كان يجري ، فكان دليلا على حيوية العراقيين ، وحرص قواهم السياسية الفاعلة على صياغة برامج محددة وناضجة لمستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم ، إلا إن عدم إيمان الأحزاب وبدون إستثناء ، بمنح مثيل أي منها للدور المناسب لها في المشاركة الفعلية لإدارة الدولة ، بسبب متطلبات أداء الزيف والنفاق السياسي الديمقراطي ، المؤطر بسند الإدعاء بممارسة الأحزاب لحقوقها السياسية ، أدى إلى إصدار قانون الأحزاب رقم (30) في 1/9/1991 (( تأكيدا للنهج الذي إختطته ثورة 17-30 تموز العظيمة في تعميق وترسيخ قواعد الممارسة الديمقراطية ، وفق مراحل التطور السياسي والإقتصادي والإجتماعي في البلاد ، وإستجابة لمتطلبات المرحلة التأريخية الجديدة من حياة العراق العظيم ، في إتاحة المجال على نطاق أوسع لكل المواطنين الراغبين في خدمة البلاد وتعزيز سيادتها وإستقلالها ووحدتها الوطنية ، من خلال المساهمة في الحياة السياسية الحزبية بأسلوب سلمي ديمقراطي مسؤول ، عن طريق الحوار الذي تتفاعل من خلاله الآراء والخبرات والتجارب ، وبما أن الأحزاب السياسية هي إحدى الدعامات الأساسية للنظام الديمقراطي ، الذي يمارس من خلاله المواطن حقوقه وحرياته وواجباته ، ومن أجل إقامة الأحزاب السياسية على أسس وطنية وديمقراطية )) ، تثبيتا لصحة وسلامة الرؤية السياسية من أن ( الحزب تنظيم سياسي يتكون من أشخاص تجمعهم مبادىء وأهداف مشتركة ومنهاج محدد ومعلن ، ويعمل الحزب بوسائل مشروعة وسلمية وديمقراطية في إطار النظام الجمهوري طبقا للدستور والقانون ) . وأن ( لكل عراقي وعراقية حق تأسيس حزب سياسي أو الإنتماء إليه أو الإنسحاب منه ، وفق أحكام هذا القانون ) . مع إن ليس هنالك من رابط وثيق وأكيد لممارسة ذلك الحق ، مع ما تضمنه القانون من أحكام مقيدة ومعطلة لتنفيذ المادة المذكورة عمليا . حين ( يشترط في الحزب السياسي أن تكون مبادئه وأهدافه ومناهجه واضحة ، بشأن التمسك والدفاع عن إستقلال العراق ووحدة أراضيه وسيادته ووحدته الوطنية ، وأن يقدر ويعتز بتراث العراق وتأريخه المجيد والمنجزات التي حققها النضال الوطني وبخاصة ثورتي 14 تموز 1958 و17/30 تموز 1968 العظيمة ، وأن لا يتخذ موقفا معاديا من الطموح المشروع للأمة العربية في إستكمال تحررها والسعي لتحقيق التضامن والوحدة العربية ) . حيث شكلت هذه المادة جوهر الخلاف السياسي مع الأحزاب الأخرى ، حيث تختلف الرؤى والتطلعات الفكرية في مضمون مواضيعها ، التي أعتبرت وسابقاتها من نصوص القوانين الخاصة بتشكيل المجالس الوطنية والتشريعية لمنطقة كردستان مثلا ، على أنها التابعة أو الوليدة من حزب البعث ، حتى شاع القول وعلى سبيل المزاح السياسي والحزبي ، أنها مجالس وأحزاب لصاحبها حزب البعث العربي الإشتراكي ، مع عدم الإطمئنان لولاء أغلبية الجماهير ذات الأهواء والمزاج السياسي الشعبي المتقلب ، إضافة إلى إرتباط معظم الأحزاب الأخرى بدول وأجندات أجنبية معادية ، وتزايد الضغوط الدولية لإضعاف قدرات العراق في جميع المجالات ، من خلال الحصار الإقتصادي الجائر على فقراء الشعب دون غيرهم ، وغيرها من عوامل التفتيت الخارجي والداخلي لبنية الدولة العراقية ، التي أدت إلى تشبث قيادة حزب البعث بأعلى ما يمكنها من السقوف السياسية والمادية للإحتفاظ بالسلطة إلى أكثر وأطول مدة ممكنة ، وإن كانت جميع أحكام المواد القانونية ، لا تتوافق ورغبة وطموح الأحزاب الأخرى وهي خارج السلطة ، لذلك تجدها من أشد المعارضين والمتمسكين برفض مضامينها ، بل ومتخذين منها نقاط ضعف وتشهير بمصداقية ونوايا إجراءات حزب السلطة الحاكم لأغراض التسقيط السياسي ، ولكنها ما أن تولت أمر السلطة وإتخاذ القرار ، حتى أصبحت أكثر بغيا وإستبدادا من سابقتها التي كانت تنتقدها ، ووقائع الممارسات العملية والفعلية التي حدثت منذ الأيام الأولى للإحتلال سنة 2003 وحتى الآن ، براهين وأدلة لما يفوق التكهن والتصور لما جرى من بشاعة وإجرام الإجراءات والممارسات الحزبية خارج القانون ، التي طالت الكثيرين على أساس الشبهة في الإنتماء لحزب البعث ، والتي إمتدت لتأخذ بعدها العرقي والطائفي والمذهبي الأكثر بشاعة ووحشية وإجرام تأريخي ، لا تنسى تفاصيل أحداثه لما خلفه من آلاف القتلى والأرامل وملايين الأيتام والمهجرين والمهاجرين داخل الوطن وخارجه .