في الثاني من نيسان 1962 كنتُ أجمع تواقيع أساتذة كلية الآداب ببغداد.. على مذكرة لمطالبة رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم..إيقاف القتال في شمال العراق..وحل المسألة الكردية سلمياً..وإذا بعناصر الآمن تلقي القبض عليً ويقتادوني إلى دائرة الأمن..فيما أجرى آخرون فوراً تفتيش دارنا..فلم يجدوا شيئاً يجرمني..وفي اليوم الثاني قدمتً للتحقيق لأجد حالي مع 15 شاباً جميعهم من بغداد..معتقلين عن القضية الكردية..وليس فيهم كردياً واحداً.
حقق معنا مفوض ألأمن صالح فخري زنكنه..أعرفه حيث كان جيراننا في باب الشيخ..وقال كل واحد يقول مصطفى البارازاني (خائن) يطلق سراحه فوراً..استغربتُ فهو كردي..وكان الأجدر أن لا يقوم بهذه المهمة.. كنتُ في آخر الصف..اثنان فقط لم يشتما البارازاني..عزلوهما والبقية أطلق سراحهم..وقال ليً (هادي إنت)..قلتُ: أنا لا أعرف البارازاني..فكيف أقول عليه شيئاً..؟ قال:إذن:اشتم جمال عبد الناصر أو فهد..قلتُ:وهذان لا أعرفهما..وأخلاقي كمسلم لا تسمح”أن أشتم الغافل حتى لو كان كافراً”.
يبدوا إن كلامي استفزه..فالتفتً إلى عناصر الأمن الواقفين إلى جانبه..فأخذوني وأشبعوني ضرباً داخل غرفة..ولم يتوقفوا حتى سقطتُ أرضا..ًواقفلوا الباب عليً الى ظهر اليوم التالي بلا طعام..بقيتُ معتقلاً في دائرة الأمن..ومن ثم الموقف العام بباب المعظم 68 يوماً..لأقدم للمحاكمة.
المهم..قال ليً رئيس المجلس العرفي: “شيخ في الجنوب قام بقتل الجنود وأحرق القرى والزرع وشرد الفلاحين..وأثار الفوضى في المنطقة.. هذا خائن لو مو خائن؟..أجبته “لا أدري”.. نظرً بوجهي..وقال بصوت حازم أجب..قلتُ له: “القضاء يحدد خائن أو مو خائن..أنا لست حاكماً ولا أعرف بالقوانين”.
نظرً إليً..وسألني أنت في أي صف؟ قلت..الخامس العلمي..قال “إذن أجبي: مصطفى البارازاني..قتلً الجنود وأحرقً القرى والزرع وشردً الفلاحين وأثارً الفوضى في المنطقة.. خائن”.. وأردف قائلاً:”تقول خائن تطلع گبل لبيتكم..وإذا أجبتكً..تسجن ثلاث سنوات”.
قلتُ: أستاذ ما أعرف خائن أم لا؟.. فأصدر الحكم بحبسي ثلاث سنوات..قضيتُها في سجون.. بغداد.. والرمادي.. ونقرة السلمان.. وبعقوبة.. وخلال ثلاث عهود..”سبعة أشهر الأخيرة من عهد عبد الكريم قاسم..وكل عهد البعث الأول..وأكثر من نصف عهد عبد السلام عارف”..ولم يطلق سراحي.. بل بقيتُ محتجزاً سبعة شهور أضافية بلا سبب.
المهزلة الأكبر..لم يطلق سراحي إلا بكفالة ضامنة..ويتعهد الكفيل بإحضاري الى الحكومة.. بأية ساعة يطلبوني!!!
(هذا هو الحكم الوطني؟؟.. وحكم قرقوش كان يطلق سراح..السارق والقاتل والجاسوس بعد انتهاء مدة محكوميه فوراً.
كانت والدتي رحمها الله تأتي لزيارتي كل شهر..حتى عندما نقلتُ إلى سجن نقرة السلمان..وفي ظروف استثنائية..وإرهاب وقتل في الشوارع..ولم تنقطع عن زيارتي أبداً.
(تنويه)..أرجوكم قارنوا بين العهد الملكي..عندما سمع نوري السعيد من إذاعة القاهرة إن فتياناً معتقلين خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956..جاءنا في نفس اليوم.. ومعه وزير الداخلية ومتصرف بغداد.. وأطلق سراحنا فوراً.
ـ وبين العهود الجمهورية الوطنية.. شاب في مقتبل عمره.. جمع تواقيع بشكل علني.. وبمذكرة أصولية لرئيس الوزراء.. يرجو فيها إيقاف القتال بين أبناء الشعب العراقي..يعتقل.. ويعذب.. ويهان.. ثم يسجن 3 سنوات.. على كلمة واحدة “خائن لو مو خائن؟”..التي لا علاقة لها باعتقالي!!
ـ وبعد انقضاء حكمه يبقى محتجزاً..من دون وجه حق..ولا قانون سبعة أشهر أخرى.
ـ أما في العهد الديمقراطي والعملية السياسية بعد 2003 فإن الهاربين من الخدمة العسكرية الإلزامية.. والسجناء العاديون من مزورين.. وسراق.. ومنحرفين.. وقتلة…. وحتى السياحة في أوربا.. تحسب مددها.. خدمة لأغراض العلاوة والترفيع..ويحصلون على امتيازات ما انزل الله بها منها سلطان.
ـ أما السجين السياسي الحقيقي.. فلا يعتبر حتى ألان سجيناً سياسياً..ولا يمنح أي شيْ.
ـ أي حكام وحكومات هذه؟؟ هل يعقل ذلك؟؟!!.