خرج العراق بعد غزو القوات الأمريكية له عام 2003 منهك القوى، مهدود الحيل، يحتاج إلى من يعيد إليه العافية ويحل مشاكله الكثيرة ليعود مجددا دولة فاعلة وقوية في المنطقة، يمارس دوره في استقرارها واستتباب الأمن فيها.
وكان المفروض بقادته الجدد أن يتكاتفوا ويتعاونوا لإنهاض البلاد وإعادتها إلى وضعها الطبيعي، ويسيروا وفق هدى مبادئ الدستور الجديد ومفاهيم الديمقراطية الحقيقية، وينشروا عقيدة التسامح والتصالح بين أبناء الشعب العراقي، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل راحوا يثيرون الضغائن والمنازعات العرقية والطائفية بينهم، ويرفعون شعارات الثأر والانتقام ضد مكونات معينة في المجتمع، غير آبهين بالمصير الأسود الذي ينتظر البلاد، وطالما نصحهم القادة الكرد باتباع سياسة «عفا الله عما سلف» مع المعارضين السابقين، وترك الانتقام، وفتح صفحة جديدة معهم كما فعلت حكومة إقليم كردستان مع معارضيها السابقين، ولكنهم رفضوا النصيحة، وأمعنوا في مطاردة وملاحقة أنصار النظام السابق (وكلهم من السنة) وتصفيتهم وفق المادة 4 إرهاب، وعبر مؤسسات وهيئات شكلت لهذا الغرض كهيئة «اجتثاث حزب البعث»، التي تحولت فيما بعد إلى هيئة «المساءلة والعدالة».
وأول من حاول تكريس الحكم الطائفي الفردي وتخطي القوانين وضرب مبادئ الدستور عرض الحائط، هو رئيس الوزراء الأسبق «إبراهيم الجعفري» الذي مهد لحرب طائفية مستعرة بين السنة والشيعة، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف، وسار من بعده تلميذه ورفيقه في الحزب «نوري المالكي» على نفس نهجه السياسي المخرب، وراح يلعب على وتر النزاعات العرقية والطائفية، ويتبع استراتيجية إطفاء الأزمات بأزمات أخرى، فامتلأت البلاد بالأزمات والمشاكل التي لا تنتهي.
أزمات من كل لون ونوع، أزمة طائفية، وأزمة عرقية، وأزمة عسكرية، وسياسية، فانعدمت الثقة بين المكونات العراقية الرئيسة. وعلى الرغم من تشكيل الحكومة على أساس التوافق وحصول كل طرف على حصته من المناصب بضغط مباشر من أمريكا، ظلت العلاقة بين الشركاء السياسيين متدهورة وعدائية إلى أبعد حد.
وسط حالة التخبط والفوضى القائمة هذه، وانتفاء الأرضية المشتركة بين الإخوة الأعداء، وإحلال الولاء الطائفي والعرقي محل الولاء الوطني، انتهزت قوات تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» الإرهابية الفرصة لتغزو المدن السنية (الموصل وصلاح الدين والأنبار)، وتعلن دولتها الخلافية المزعومة، وبموازاة ذلك وجدت القوى الخارجية فرصتها الذهبية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، بحجة محاربة الإرهاب وحماية المذهب الشيعي من قوات «داعش»، مثل إيران التي بسطت سيطرتها على مفاصل الدولة الأساسية، وكشفت عن وجهها الاحتلالي بصورة سافرة، عندما أفصحت عن نيتها في إقامة إمبراطوريتها الفارسية وعاصمتها العراق، بحسب مستشار الرئيس الإيراني «علي يونسي» الذي قال «العراق ليس جزءا من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا. وهو عاصمتنا اليوم.
وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه، لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء، ولذلك فإما أن نتوافق أو نتقاتل»، وعلى الرغم من هذه الإشارات الصريحة والواضحة المتكررة التي تكشف النية المبيتة لإيران في احتلال العراق أرضا وشعبا وتاريخا، فإنها ما زالت تظهر نفسها كمحرر للبلاد لا كمحتل، وكصديق لا كعدو، ويبدو أن الكثير من قادة العراق قد انطلت عليهم الخدعة الإيرانية هذه وأصبحوا يؤمنون بأنها جاءت لتنقذهم وتحرر أرضهم من هيمنة «داعش» وسطوته.
والآن.. العراق على مفترق طرق، إما أن يتفكك ويتشظى ويتحول إلى دول وكانتونات عرقية وطائفية متناحرة، وإما أن يصبح محمية إيرانية يديرها ولي الفقيه، وإما أن يتجرد قادته الجدد عن أنانيتهم ومصالحهم الطائفية والشخصية الضيقة، ويحاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان من خلال العمل الفوري على، أولا: إعادة التوازن إلى علاقات العراق مع دول الجوار، وعدم تفضيل دولة على أخرى.
وثانيا: السعي الجدي نحو مصالحة وطنية حقيقية تقوم على أساس المواطنة والشراكة العادلة في إدارة البلاد.. عندها يمكن أن يتحاشى العراق مصيره المحتوم!