23 ديسمبر، 2024 10:27 ص

السببية بين العلم والفلسفة

السببية بين العلم والفلسفة

استهلال:
” أما الرياضيات فهي نظر في الحساب والهندسة وليس في مقتضيات الهندسة والحساب ما يخالف العقل والحق ولا هي مما يمكن أن يقابل بإنكار وجحد”
 أبو حامد الغزالي، مقاصد الفلاسفة.
منذ البواكير الأولى لإنبجاس القول الفلسفي مع الإغريق أو الهنود أو الحكماء العرب بدت فكرة السببية متعلقة بالطموح الكبير الذي تبديه همة الفكر نحو جعل المسائل الكلية: الأصل والتكوين وصيرورة الكائن أمورا معقولة ومدركة من طرف الإنسان. وظهر البحث العقلي عن الأسباب الأصلية والتطلع المعرفي نحو العلل النهائية أمرا متأصلا في الطبيعة البشرية ومنغرسا في الروح التائقة نحو المطلق. بيد أن الإنسان لم يدرك مباشرة عن طريق الحواس والذهن سوى جزء بسيط من الواقع، وبالتالي كان البحث بواسطة الأسباب منذ البدء وسيلة محبذة لتجاوز هذه المحدودية وبلورة إستراتيجية معرفية وتقنية تقدر على سبر الكون في مجموعه. هذا التوجه لم يكن عن طريق إبداع الأساطير الكونية والحكايات الكبرى التي تظهر القدرات الخارقة للبشر ونماذج خرافية من السيطرة على المكان والتجوال في الزمان وإنما من خلال اختراع نظريات علمية وتصورات فلسفية تعتمد على التجريد الرياضي والتثبت التجريبي وتعتقد أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة وأن الوقائع تنتظم وفق نظام معين وأن انبثاق وتتابع الظواهر يشبه انبثاق وترابط الأفعال الإرادية للبشر.
إن فهم مصطلح السببية Causalité ودوره في نظرية المعرفة وفي مستوى سيطرة الإنسان على الطبيعة وعزوه الفضاء وتفجير الذرة والتحكم في الخلايا المنتجة للحياة يتطلب تقصي جنيالوجي لوضعها السابق في ركام الميتافيزيقا و استعمالها المكثف من قبل العلماء في الاختراعات والإنشاءات الصناعية من قبل التقنيين، دون أن نهمل فترات الأزمة التي تعرضت لها والانتقادات التي وجهت إليها. فما نقصد بالسببية؟ ماهي طبيعة السببية؟ ماهو أصلها أو مصدرها؟ وماهي قيمتها؟ ما الفرق بينها وبين العلية والضرورة والحتمية والجبرية؟ هل هي عقيدة دينية أم فكرة فلسفية؟ هل هي قانون علمي أم مبدأ أنطولوجي؟ هل حتمية صارمة أم نموذج إرشادي يوجه البحث العلمي لا غير؟ هل هناك سببية خاصة وجزئية وقطاعية أم أنه لا توجد سوى سببية كونية كلية وواحدة؟ كيف يمكن رسم تاريخ مختصر للنظريات الفلسفية لفكرة السببية؟ ما حقيقة الانتقادات الموجهة ضدها؟ وهل بالفعل مجرد عادة في القول والعمل كما يري الغزالي وهيوم أم أنها سنة من سنن الكون وضرورة طبيعية كما يؤكد ابن رشد واسبينوزا؟ ما طبيعة الأزمة التي تعرضت إليها؟ وهل يمكن للفلسفة والعلم أن يتخليا عنها؟ ألا تتحول السببية إلى عائق ابستيمولوجي تحول دون التقدم والتطور؟ وهل يقتضي منطق الكشف العلمي تحطيمها والاستغناء عنها واستبدالها بأوليات جديدة؟
ما نراهن عليه هو تفادي الربط بين الإيمان بالسببية على صعيد الوجود والمعرفة والقيم والتسليم بالقضاء والقدر والارتماء في الخرافة والغيب والتأكيد على أن الإنسان خالق أفعاله وهو مكلف بعقله مستخلف في الأرض وبالتالي فهو مسؤول عما يأتيه في الأرض من أعمال سواء كانت محمودة أو مذمومة.
1- ماهي المنزلة الميتافيزيقية للسببية؟
يقول أفلاطون: ” كل ما يولد هو يولد بالضرورة بفعل سبب… لأنه من المستحيل أن يولد أي شيء كان دون سبب”
بادئ ذي بدء يمكن أن نشير إلى أن مصدر النظريات الفلسفية هو في الغالب النظريات السابقة عن الفلسفة وخاصة التصورات الدينية والميثولوجية، فالمفهوم السحري عن القدرة puissance عند المانا والذي حلله كل من فرايزر ودوركايم وموس يمكن أن نعتبره واحد من أصول فكرة السببية في أشكالها الأولى. وحتى إن التفت الإنسان البدائي فيما بعد إلى الآلهة فذلك نتيجة إحساس وفهم معينين للسببية. وقد افترض الإغريق فوق هذه الآلهة نفسها قدرة مطلقة لا تقهر أطلقوا عليها اسم القدر وافترضوا أنها تتحكم في الأحداث التي تحصل للبشر وحتى في مصير الآلهة نفسها. ففي التفكير الأسطوري يعتبر غضب الآلهة سبب هذا العنف الذي يجعل المرء في حالة من عدم الرضى بمنزلته في الكون و يسبب غفوة الناس. فضربات القدر لها أسبابها والقدر نفسه يتحكم في الآخرين بالأسباب. غير أن فهمنا للسببية على أنها قدر يقتضي وجود فكرة الكلية واستمرارية السلاسل والتساوي بين السبب والنتيجة ولكن توجد على الأقل فكرة تعاقب الأشياء وهي فكرة ضرورية حسب هارتمان لتشكل مفهوم السببية العلمية فيما بعد. إن الانطلاق من فكرة القدر يمكننا من إدراك مصدر فكرة السببية فقد أعلن أنكسماندر “أن كل شيء يحدث بالاعتماد على القدر”. غير أن هذه الضرورة المطلقة بعيدة كل البعد عما نعنيه اليوم بالسببية التي ربما تكون قريبة مما يعنيه الذريون بالصدفة عند تفسيرهم لحدوث الأشياء في العالم. إن ديموقريطس لا يرى في وجود قطيعة بين الأحداث بل استمرارية وحلقة متسلسلة ، إذ كل شيء يفسر من خلال أساس صلب وبواسطة قانون معين ومنطق خفي. انه منذ أن شرع العالم في التواجد فإن كل شيء يحدث وفق ضرورة معينة.
لقد أشار علينا سقراط بأنه عثر في يوم من الأيام على كتاب الطبيعة لأناكساغور ووجد فيه أن مبدأ النوس Nous هو الذي ينظم كل الأشياء وقد نقد اعتماد الطبيعيين على الأسباب الميكانيكية واقترح نظرية الغائية التي تتأسس على الإرادة الموجودة في الطبيعة البشرية. إلا أن أفلاطون في محاورة الفيدون يرى أن الأسباب الغائية لا تسمح بتفسير شامل للأشياء ويلتجئ إلى شكل جديد للسبيبية صاغه فيما بعد أرسطو اسم العلة الصورية. ويقصد أن الأفكار هي الماهيات والأسباب الصورية للأشياء غير أن نظرية الأشكال الصورية عند أفلاطون خاضعة للأسباب الغائية .
اللافت لنظر أن هناك تفسيرات متعددة لفكرة السببية عند أفلاطون ففي محاورة المينون يقول أن المعرفة العلمية هي معرفة ثابتة وبالاعتماد على العلم يقع تثبيت المحسوس بواسطة التفكير في السبب وفي المحاورات الأخيرة يعلن أفلاطون صراحة عن فكرة السببية، ففي الفيلاب يرى من الضروري أن كل شيء يصير ولا بد أن يكون وراء صيرورته سبب ويفرق بين الأسباب الأصلية الأولى لتكون الشيء وتكون الأسباب الثانوية التي ترتبط بالمادة وهي أسباب عمياء لامعقولة ونجد هذا التمييز بين الأسباب الأولى والأسباب الثانوية وارتباطها بالعقل في الطيماوس. ورغم كل شيء فإن أفلاطون لم يبدع إلا إرهاصات ومبادئ جنينية لفكرة السببية وأرسطو هو الذي أسس أول نظرية حول السببية عندما ميز بين أربعة من الأسباب الصورة –المادة –الغاية –الفاعل . اذ يأخذ مثال التمثال ويرى أن علته المادية هي البرنز والعلة الصورية هي الإله أو الإنسان الذي يحاكيه النحات والعلة الفاعلة هي ضربات المطرقة والعلة الغائية هي الغائية التي وجد من أجلها التمثال (التعبد –التذكر). ويترتب عن ذلك أن الإغريق لم يستنبطوا نظرية في السببية من الطبيعة بل من أثار الإنسان ومن نظره وتأمله لهذه الآثار على الرغم من أن اعتبار الطبيعة لم يكن غائبا عن أنظار أرسطو الذي حاول بالإضافة إلى ذلك أن يوجد قدرة صانعة تحاكي الشخص الإنساني.لكن إذا أخذنا الأشياء في نموها أي في “الكيف” و”اللماذا” فلا بد أن نعود إلى العلة الفاعلة التي تفسر تكون التمثال في الزمان والعلة الغائية التي تفسر لماذا صنع التمثال، كما أن الصورة المادية تتناقض مع العلل الصورية والغائية والفاعلة لأن هذه الأخيرة ليست مفارقة للشيء بل هي محايثة. تتعلق نظرية السببية بمجمل فلسفة أرسطو وبمنطقه لأن السبب يلعب نفس الدور في القياس أو علم النفس بما أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي نفسها الموجودة بين الغاية والوسيلة في الفعل الإرادي والقائمة بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل في الميتافيزيقا. إذ أن الفاعل هو الذي يدفع بالشيء من القوة إلى الفعل ولكن الفعل ليس إلا السبب الصوري وفي المجال العملي ولكي نفسر ظاهرة الكسوف والخسوف يلتجئ أرسطو إلى العلة الغائية لأن هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها بالعلة الفاعلة، فالتغير الطبيعي والإنتاج الصناعي يحدثان من الصورة. غني عن البيان أن أرسطو هو الواضع الأول لنظرية متكاملة عن فكرة السببية وحتى الفلسفات الرواقية والأبيقورية فإنها وقعت في العديد من النقائض . إذ أكدت الرواقية على العقل و اللوغوس والأسباب ونظرت إلى الأشياء باعتبارها في نفس الوقت منطقية وطبيعية، فالسبب يعطي الشكل للمادة وسنجد أن الرواقيين يثبتون السببية الكونية التي قال بها أنكسيمندر عندما يتطرقون إلى القدر ويتبنون كذلك الأفكار الميتافيزيقية لأرسطو . ولكن لهم السبق في القول بأن كل شيء في العالم هو منغلق عن الأشياء الأخرى ولكنهم يرون أن كل شيء متعلق بالكل وبالنسبة إليهم “كل شيء يمكن أن يكون علامة على كل شيء” ويمكن على هذا النحو أن نعتبر أن إثبات الرواقية للسببية هو تدمير للمفهوم الحقيقي لها. هذا التناقض نجده كذلك عند الأبيقوريين فهم يقولون من جهة أن لا شيء يصدر عن اللاوجود متبعين ديموقريطس ولكنهم يؤكدون على أن تواجد بعض الفترات الزمنية القصيرة والخاطفة التي تغادر فيها الذرات الخط المستقيم لتلتقي ببعضها البعض و بهذا فهم يثبتون السببية ونقيضها في نفس الوقت. وبالتالي لا نجد حقيقة كونية بل نظرية في الصدفة وحتى الشكاك مثل بيرون وسكستوس وأنسيدام فإنهم أكدوا على لاكفاية مبدأ السببية لأن السبب لا يوجد لا عندما يحدث الأثر ولا عندما يعاصره فهي ليست شيئا لأنه يسبق النتيجة / الأثر بل ينبغي أن يحدث في نفس الوقت مع الأثر لكن إذا كان السبب والأثر متعاصرين فمن يقول لنا من بين هذين الحدثين من هو السبب ومن هو النتيجة؟ وينتهي الريبيون إلى أن فكرة السببية هي مجرد فكرة أو ابتداع من ابتداعات الفكر وقد واصل الغزالي النقد الريبي بتأكيده أن فكرة السببية هي من إبداع الفكر بينما الأمر الذي يوجد في الواقع هو التتابع والتعاقب والتكرار لا غير.اذ يقول الغزالي في هذا الإطار:” “إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.” نستخلص من ذلك أن البذور الجنينية لفكرة السببية الحديثة مزروعة في الفكر الفلسفي القديم، ففلسفة اسبينوزا مثلا قد احتوت على كل النظريات القديمة : الهندسة الاقليدية والتصور الرواقي والأبيقوري للكون، لذلك أنتج اسبينوزا مفهوما للسببية هو في نفس الوقت ضرورة عقلانية حيث أن خصائص شكل هندسي ما مستنبطة من ماهية هذا الشكل وسببية محايثة للعالم أي للطبيعة، غير أن الطبيعة من حيث وجهها الإبداعي هي الإله ،وفي مستوى ثالث يؤكد اسبينوزا أن كل واقعة معينة هي مسببة من قبل واقعة معينة تسبقها وهي تشير بذلك إلى التصور الذري لسببية. ما نلاحظه أنه بعد القديس توماس الإكويني لم يحافظ الفكر البشري إلا على نوعين من الأسباب الأربعة الأرسطية فهو قد تخلص من العلتين الغائية والمادية واعتمد على العلة الفاعلة والصورية فإذا كان العصر الأول لنظرية السببية يعود إلى أرسطو وعلله الأربعة فإن العصر الثاني الذي أبقى على علتين ” الفاعلة والصورية” قد بدأ مع علم القرن 17 ولعل تصور الإله على أنه إله صانع أو علة غائية مثل التصور الأرسطي والقبول بفكرة إله خالق من عدم قد أعطى قيمة كبيرة للعلة الفاعلة فكأن العلم والفلسفة قد توحدا ليتفقا على إعطاء العلة الفاعلة المنزلة الأولى، وسنجد في العصور الحديثة أن العلة فهمت من خلال معنيين الأول تنص فيه على التعاقب الزمني للأثر بالمقارنة مع السبب أو الضرورة العقلانية بين الأثر والسبب في الأول نحن أمام التصور التجريبي أما في الثاني فنحن أمام التصور العقلاني لسببية. إن” السبب في اللغة: اسم لما يتوصل به إلى المقصود وفي الشريعة: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه” . من هذا المنطلق تعرف السببية هي العلاقة الثابتة بين السبب والمسبب وبالتالي تحدث جميع التغيرات وفقا لقانون الارتباط بين السبب والنتيجة، وتعني أن لكل ظاهرة سببا يقف وراءها وبالتالي ما من شيء إلا وكان لوجوده سبب أي مبدأ يفسر وجوده. هناك ترادف بين السببية والعلية ولكن العلة هي ما يحصل به الشيء وينتج المعلول بلا واسطة بينما السبب هو ما يحصل عنده الشيء ولا به وبالتالي يفضي إليه بواسطة. لكن كيف كانت النقلة من الفلسفة إلى العلم تحولا من العلة إلى السبب؟ ولماذا لم يعد الباحث يكتفي بالتفتيش عن علل الظواهر وصار يهتم بالقوانين وبالعلاقات الثابتة التي تربط بينهما؟

2- مبدأ السببية وأزمة الأسس في العلم:

“ان مبدأ السببية يشتمل دائما على مفهومين متناقضين للدوام وعلى صورتين عن التكوين المسبق للمستقبل في فلب الحاضر.”
إن تاريخ فكرة السببية هو تاريخ التناقضات المتزايدة حولها إذ تناقص عدد الداعين إليها واضمحلت في النهاية لتترك المكان لفكرة القانون .ومن البين أيضا أن فكرة القانون نفسها وقع عليها تغيير جذري اليوم لأن القانون لم يعد ثابتا ستاتيكيا يطبق على المجموع بل مقاربة ديناميكية جزئية تطبق على حالات جهوية وقطاعات معينة بحيث أن الدقة والصرامة أصبحت تابعة لقوائم الحساب والمراجعة.
إن القرن 19 هو قرن تعويض فكرة السببية بفكرة القانون بحيث ظهرت مصطلحات الشرط والعلاقة والترابط. وأسباب ذلك أن القرن العشرين هو قرن عوضت فيه فكرة القانون الصارم الكوني بفكرة القانون التقريبي الإحصائي أين ظهر اتجاه جديد ينطلق من إشارة لكانط يقول فيها بإمكانية أن تكون مقولة السببية مكملة بواسطة مقولة التكامل والتلازم.  لكن لو غيرنا موقفنا النظري وبحثنا الآن في طبيعتها هذه الفكرة فانه يمكن اعتبارها من زاوية الحس المشترك إما هي واحد من العناصر المكونة للطبيعة البشرية أو واحد من المفاهيم المكونة للعلاقات بينها أو تصعد متجاوزة تجارب الحس المشترك نحو التجارب التصورية الأكثر فردية من التجريد والحدس. نحن أمام واحد من المفاهيم التي تصعد حينا وتهبط أحيانا في سلم المفاهيم فالإنجليزي ألكسندر والفرنسي هاملان يتكلمان عن حيث حضور فكرة السببية في مستوى قريب جدا من الحس المشترك ورغم نقطة أن نقطة انطلاقهما كانت مختلفة فإنهما يصلان إلى نفس النتائج ، إذ يرى هاملان أنه إذا أردنا أن ندرك علاقات السببية بالعلة الفاعلة فإنه يتوجب علينا أن نطابق بين العلة الفاعلة والعلة المادية كما يفعل هاملتون ومايرسون بما أن هذا التطابق سيمكننا من نفي كل جدة بما أننا أمام تطابقات بديهية. فما يميز علاقة السببية حسب هاملان أن الأثر خارج السبب يحدث من ثلاثة وجوه هي المكان والكيف والزمان، وهذا الإثبات لخارجية الأثر بالنسبة للسبب يؤكد لنا أن فكرة السببية تتضمن التفريق بين واقع الأشياء الثابت وحدوث الأشياء الصائر فإذا كان حدث ما لا ينفك يعاود نفسه في حركة متواصلة بسبب مبدأ العطالة فإنه ليس هناك سبب لهذا فإننا لا نلتجئ إلى فكرة السببية إلا إذا كان هناك أمر طارئ جديد قد حدث ويتطلب التفسير، وبالتالي فإن مبدأ العطالة يؤكد على أن حدوث شيء ما بطريقة متواصلة لا يقتضي استدعاء فكرة السببية .يترتب عن ذلك أن علاقة السببية هي ضرورة أن يوجد جزء معين من موجود في حاجة لما يوجد خارجه أي تفترض أن الموجودات رغم أنها متميزة تمام التميز بعضها عن البعض إلا أنها تظل في حاجة بعضها إلى بعض، إنها إثبات تبعية المنفصل وبهذا فإن الشكل الوحيد للسببية في العلم هو السببية الخارجية. فإذا كان اسبينوزا يرى أن الإله هو سبب الأشياء بطريقة محايثة فإن هاملان يرى عكسه أي أنه لاوجود لسبب إلا إذا كان هناك انفصال بين السبب والأثر . نفس التأكيد سنجده عند ألكسندر لأن العلة الفاعلة مفصولة عن العلة الصورية أي أن السببية متعلقة بالفصل الموجود بين الظواهر وما يوحدها، فإذا كنا من وجهة نظر الشعور المباشر في غمرة الأحداث وسيلانها كما يرى برجسن فإننا لا نحصل مطلقا على فكرة السببية أما إذا انفصلنا عن الأشياء فإنه بإمكاننا تصور وحدة ناظمة لها.  غير أن هيجل يربط السببية بفكرة الوحدة فعندما نقول بأن الرطوبة سبب نزول المطر فلأننا نقول بأن ما يمثل أمامنا الآن كرطوبة سيمثل فيما بعد أمامنا كالمطر. إن وراء الاختلافات والانتقالات يوجد تشابه ثاوي في الداخل يربط بينها ، ففكرتنا الأولى عن الانفصال والفرق ينبغي أن تكتمل بفكرة السببية التي تفترض الوحدة والاستمرارية . يقول هيجل ” إن الأثر لا يحتوي على أي شيء يزيد عما يحتويه السبب ” إنها فكرة المطابقة التي تنزل منزلة رفيعة هنا .

 في السياق نفسه ينبغي أن تذكر فكرة مايرسون التي تدعو إلى ضرورة اختزال السببية في التطابق ،غير أن عيب مايرسون أنه اختزل الوحدة في التطابق , في حين أن هيجل أدرك التشابه عبر صيرورة الاختلافات وسيلان الفوارق ورأى أننا أمام لعبة الواحد والكثرة التي هي لعبة الفكر الذي يذهب من التطابق إلى الاختلاف ومن الاختلاف إلى الوحدة .عندئذ نستخلص أن فكرة السببية لا ترتبط بالتطابق والوحدة فحسب بل يمكن أن تقيم علاقات مع العلاقة والسلب أو النفي، إذ يعرف هيجل السبب على أنه” الحدث الذي من غيره لا يمكن لشيء آخر أن يحدث أو يوجد “، ويقصد أن السلب يحضر في الطريقة التي تقودنا إلى اكتشاف السبب فكل المنهج الجدلي مبني على الانقضاض والحذف وتوليد الفوارق والاختلافات وهذا يفترض السلب.  أما البعد الثاني من التناقض الذي يعاني منه المعتقد في السببية فيتمثل في أن السببية تكون السير العادي للأحداث لأن الزمن هو طريقتنا المعتادة في ترتيب الظواهر بحيث يمكن أن نسند عدة متناقضات لنفس الشيء في فترات زمنية متقاربة، فالاختلافات تظهر ولكن ليس في نفس الوقت وإنما بطريقة متتالية في نفس الشيء وبهذا نصل إلى استدلال ترسندنتالي للزمن.  هل يمكن أن نضيف إلى السببية خاصيتين يعدهما هيوم ضروريتين هما: القدرة والضرورة ؟
الجواب يتعلق بالموقع الذي نحتله لنحكم على فكرة السببية، إذا انطلقنا من موقع العلماء فإن فكرة القدرة بعيدة كل البعد عن أن نسندها إلى السببية لكن إذا انطلقنا من موقع الحس المشترك كما يفعل هاملان وألكسندر فإنه يمكن أن تدمج فكرة القدرة إلى السببية. البعض من الفلاسفة يرون أن انتظام الطبيعة ليس أمرا مرئيا حتى نقدر على القول بوجود فكرة الانتظام ورغم ذلك فإن الإنسان قادر على اكتشاف هذا الانتظام ليس بتطبيق فكرة القبلي ولكن بالاكتفاء بفتح الأعين والتحديق مليا في الكون. من جهة أخرى لا يتكون العلم إلا ببناء الأنساق المغلقة ولكن هذا البناء لن يتم إذا أجهزنا على كل انتظام في الطبيعة ورفضنا وجود سير ثابت ومنتظم للأحداث. كما يرفض برجسن التفريق بين سببية فكرية وأخرى طبيعية ويعتبره عرضيا لأنه عندما نقول بأن هناك سببية متأتية من الفكر وأخرى من الطبيعة فإن هذا القول هو مجرد قول عرضي وتافه. ويرى برجسن أن فكرة السببية تنبع من نوع البرزخ بين العالم الخارجي والعالم الداخلي. إذا اقتصرنا فقط على القول بوجود الإنسان فإن فكرة الانتظام تتعرض للخطر وإذا اقتصرنا فقط على القول بوجود الطبيعة فإنا ما ينقصنا هو عنصر القدرة والنجاعة، فهل من المشروع أن نفرق بين الفكر والطبيعة وبين السلسلة الداخلية والسلسلة الخارجية للأسباب والفكر نفسه موجود في الطبيعة ومبثوث فيها؟ ثم ما قيمة فكرة السببية في حد ذاتها ؟
سننطلق من موقف الحس المشترك الذي يربط فكرة السببية بالإحساس الأولي بالسبب والذي يعطينا عندما نلاحظ أنفسنا إحساسا كثيفا وغامضا لفعلنا يربطنا بعنصر خلاق حاضر في الأشياء، وسننطلق كذلك من الموقف الذي يعتبر السببية شبكة من قوانين وعلاقات ثابتة ودقيقة بين الظواهر ونستخلص من ذلك أن كل المفاهيم الإنسانية والتصورات موجودة في مرحلة وسطى بين أصلها الملتبس والغامض وهذه الشبكة الدقيقة من القوانين قد أبرز كلوديل الإحساس بهذه الكثافة والتكتم الذي تنبع منه المفاهيم. أما فاليري فإنه بين لنا الشبكة الدقيقة من القوانين الذي تنتظم وفقها مفاهيمنا. ولكن الإنسان في حد ذاته موجود في منطقة وسطى بين عالم كلوديل وعالم فاليري والفكر الإنساني له هذين الوجهين ويختزن مضمونا كثيفا عبر عنه مين دي بران وبرجسن ووايتهايد من خلال افتراض شبكة من القوانين والدوال ومنطقة من الاحتمالات .
لكن إذا أردنا بيان قيمة السببية بين الفلسفة والعلم فينبغي على الفيلسوف من جهة أن يحافظ على هذه الفكرة ومن جهة ثانية أن يجبرها على الاضمحلال والتراجع لكي يتقدم على صعيد البحث ويتماشى مع منطق الكشف ،فالسببية بماهي موجودة خلف الظواهر الذي يصدق به الحس المشترك ينبغي أن تختفي وتضمحل، لذلك تبدو مهمة الفلسفة مزدوجة الأولى تكتفي بالوصف الفنومينولوجي والثانية تمارس التفكيك والفصل والتفريق .عندما نقبل التفريق بين الفكر والعالم الخارجي فإننا ننتهي إلى القول بأن العالم الخارجي إذا وجد وحده أو الفكر وجد وحده فإن فكرة السببية لا يمكن أن تظهر لنا لذلك ينبغي أن يلتقيا العالمين لكي تظهر فكرة السببية وهي مرحلة ثانية لا بد أن تحتل موقعا ما من الأشياء ومن الملاحظات أي أن تكون الأشياء مفصولة عنا لكي تصبح فكرة السببية مقبولة. في نحن ندور في حلقة مفرغة :إذا أصبحت إحساساتنا مرهفة وإذا رأينا الأشياء بطريقة مجهرية ملموسة وذلك بالاتفاق مع نتائج الفيزياء المعاصرة فإن فكرة السببية لا يمكن أن تظهر وعندما ننظر إلى العالم من خلال فكرة السببية فإننا نقضي على تنوع الظواهر ولا نحصل على عدد لا متناهي من الأشياء أي نشاط الفكر هو نشاط تحليل من جهة وتأليف من جهة ثانية ونحن نكون في حاجة ماسة دائما إلى تأليف ما كنا قد حللناه، وهذا الفعل هو خاصية كل حكم إنساني. يقول برادلي حول هذا الموضوع:” الحكم هو تفريق بين موضوع ومحمول ويتضمن أيضا جمع بين الموضوع المحمول إذا قلت إن الطاولة خضراء فإنني أبعدت فكرة الطاولة عن الصفة “خضراء” ثم جمعت بينهما فيما بعد لذلك ففكرة السببية ليست مختلفة عن الأحكام الأخرى فإنني أفرق بين الظواهر ثم أجمع بينهما فيما بعد، هذه هي الطريقة التي يجيب فيها الإنسان عن الأسئلة التي يطرحها على نفسه، هناك أجوبة بالاعتماد على الأحكام وحكم السببية هو واحد من الأحكام الأخرى أي من التحليل والتأليف”. إذا أردنا أن نرى الأشياء كما هي خارج ذواتنا في العالم فإننا ينبغي أن نحكم تقريبا على أنه ليس هناك سلاسل أسباب فنحن لن نصل إلى فصلها البعض عن البعض وقد أكد على هذا الأمر نيتشه باعتقاده النسبي لفكرة البراغماتية ولكن لكي نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نستعمل مصادرة السببية التي يعتبرها البراغماتيون مصادرة ناجحة.لكن هذا التفريق بين الأشياء يفترض مسبقا وجود كيفيات مختلفة فما يميز السبب عن الأثر هو أن الأثر له كيفيات مختلفة عن كيفيات السبب لذلك يقول البعض أن العالم الخارجي هو عالم الكميات لكن عندما يكون هناك فكر تتحول هذه الكميات إلى كيفيات لأنه إذا كنا أمام البعد الكمي المحض فإنه لا يمكننا الحديث عن علاقة سببية لكن توجد أحداث تظهر مع كيفيات متعينة مختلفة وبهذا نبحث في الواحدة منها كأنها سبب للأحداث الأخرى، هنا يظهر أن أصل السببية هو التقاء العالم الذاتي مع العالم الموضوعي وتواصل الداخلي مع الخارجي .ما قلناه لا يحطم فكرة السببية بل يجعلها موجودة في الحقل التوسطي حيث نحن موجودين في العالمين ووجود فكرة السببية هنا مشروع فهي مرتبطة بوجودنا والمكانة التي نحتلها في الكون كهمزة وصل بين حدين: العالم الداخلي والعالم الخارجي. غير أن هذا يؤكد لنا أن فكرة السببية لا تكون صحيحة إلا في مرحلة معينة من مسيرة الفكر لذلك فإن البعض مثل هاملان وألكسندر لا ترضيهما تحليلاتنا، فالسببية لا توجد إلا إذا كان هناك تخارج بين ظاهرتين أي حيث تكون الظاهرة الأولى في موقع خارجي بالمقارنة مع الظاهرة الثانية المرتبطة بها، لكن عندما تقترب أكثر بالأحداث والظواهر نجدها متشابكة ومتداخلة أكثر فأكثر وسنجد أن فكرة السببية كما تصورناها وقع تجاوزها .إذا سلمنا بالتقسيم بين ما ينبع من الفكر وما ينبع من الملاحظة الطبيعية فإنه يمكننا أن نقول بطريقة مفارقة أن العناصر الكبيرة المكونة لفكرة السببية تأتي من فكرنا وأن العناصر الأكثر دقة توجد نقطة انطلاقتها في ملاحظة العالم الخارجي لكن بعد أن فرقنا بين البعدين لا بد أن نعيد دمج الفكرة في الطبيعة. الآن سنتساءل إن كانت فكرة السببية تمكننا من الإهتمام بحقيقة ما يوجد في تجربتنا ، حسب تايلور لا يوجد أي حدث يكون مرتبطا بحدث آخر سبقه لأن مجموع الشروط لم تتحقق حين يبرز الحدث فما نسميه السبب هو أساس غير مكتمل. من جهة أخرى ينصص لوتز على التلازم وتبادل الخدمات بين السبب والأثر وخاصة فيما يخص العضو الحي. أما ماخ فإنه يرى أن السببية تحقق اقتصاد مهما في التفكير لكن هذا لا يمنع من وجود صيرورة متواصلة لعالم الظواهر لا تقدر السببية أن تقدم لنا عنها فكرة واضحة فعندما نقول إن ظاهرة ما هي سبب ظاهرة أخرى أو أثرها فإننا لم ندرك إلا أول السلسلة وآخرها.  من جهة أخرى ينقد نيتشه السببية ويعتبرها خطأ جوهريا وقع فيه للفكر البشري أو وهم ومجاز ولا يكتفي بالنقد بل يدعو إلى تحطيمها وهذا التحطيم عند فيلسوف رياضي عقلاني مثل رسل الذي صاغ القضية التالية ” أ-هي سبب “ب” لا ينبغي أن يقبل في العلم ” .ويمكن أن نواجه فكرة السببية لا بالعلم بل بالتجربة المعيشة والحياة والإدراك هذا بالإضافة إلى النتائج الحاصلة في العلم ، فهيجل يرى في السببية إثبات الوحدة بين السبب والأثر فالكائنات الحية تحطم سببها كسبب أي أن الكائن الحي لا يختزل إلى سببه ولا يرد إلى سببه فقط بل يتجاوزه أي هو نفسه شيء خصوصي وبمعنى ما هو غير قابل للاختزال . أما إيدنغتون فإنه يرى الحدث الفيزيائي ليس سبب الإحساس بل هو الإحساس نفسه ويقترب بذلك من ماخ وبعض الواقعيين الجدد الذين يرون اعتبار السببية غير ناجع في مجال الفكر ويدعون إلى تركها والنظر إلى الأشياء مباشرة لأنه في اللحظة التي ندخل فيها عالم الفكر نكون في ما وراء فكرة السببية.  في الواقع يمكن أن نواصل نفس العمل في عالم الحياة ولو توجهنا نحو عالم الفكر لكي نبين عدم كفاية فكرة السببية وهو ما فعله هيجل عندما قال بأن ” الكائنات الحية تحطم سببها من حيث هو سبب .” ويعني بذلك أن فكرة السببية الخطية ليست مقبولة في عالم الحياة العضوي لأن هناك سببية دائرية أي تلازم وترابط وتفاعل جدلي ونجد في التصورات الجدلية والعضوية لوايتهايد رفض لكل تحديد قبلي ونفي لكل تسلسل خطي .لذلك وضعت السببية موضع الشك إما من طرف الفيزياء المعاصرة ومبدأ اللاتعين واللاحتمية والتحليل النفسي ونظريته في انقسام اللاوعي إلى وحدات ثلاث وهي كما يقول مارلوبنتي” السببية غير كافية لنفهم الصلات الموجودة بين حالاتنا النفسية وحالاتنا الجسدية وحتى لفهم الصلات الموجودة بين الحالات النفسية فيما بينها ” فليس هناك أي فعل وعي يتطلب وجود سبب قبلي . وقد تمكن نظرية القشطلت أو علم النفس الشكل من تجاوز الفصل غير المبرر بين التفسير السببي والتفسير بواسطة الدلالة والقيمة ، في هذا الإطار يقول قولدشتاين ” إذا كانت السببية قادرة على تفسير الظواهر الجزئية فلأنها تظهر لنا في ظروف نحصل عليها بعد عزلنا لها والتي يحافظ عليها الجسم في وضعية اصطناعية أين لا تواجه الظواهر خطر الاضطراب “.نحن اليوم في عصر أهم من القرن 16 و17 عصر الفيزياء الميكانيكية التي تأسست على الأنساق المعزولة وفكرة الملاحظة لذلك فإن السببية تتعرض إلى تهديد حقيقي، فعالم كبير ورياضي عقلاني ماهر مثل برانشفيك لم يتمسك إلا بفكرة واحدة عن السببية وهي “يوجد يكون ” أو”الكون موجود”.  كما يرى وايتهايد أن العلم المعاصر يدعونا إلى مراجعة كل التصور الديكارتي عن العلم لاسيما وأن حدث ما لا يبرز في لحظة معينة وفي موضع محدد بل داخل عدد لامتناهي من النقاط وفي برهة من الزمن غير قابل للقياس .

 

خاتمة:

 في نهاية المطاف أن تطور العلم قادنا إلى ضرورة مراجعة مبدأ فردية الذرات وفكرة المكان ومبدأ السببية وبالتالي لا يوجد انتظام داخل الكون . ولو عدنا إلى الإحساس الغامض الذي يجعل فعلنا الخلاق معروفا فإننا سنعثر على البنية التحتية للسببية والتي حاول العلم إخفاءها قدر الإمكان لذلك يبين وايتهايد أن فكرة السببية يمكنها بالاعتماد على العلم أن تصبح شيئا فشيئا أكثر فعالية وقدرة ويرى ضرورة أن نضيف لفكرة السببية الإحساس الأولي والأصلي بالسبب وبذلك بقي وايتهايد وفيا إلى ما يسميه وليام جيمس التجريبية الجذرية وفي نفس الوقت إلى العلم وبذلك يجمع بين إثبات كثافة الشعور الأولي بالسبب ودقة العلاقات التي يصل إليها العلم. ربما الفرصة سانحة الآن لفهم دور التفسير وقيمته بالخصوص في علوم الفكر، فالتفسير هو تحقيق النمو وهو يتطلب أن تكون الأشياء معطاة منذ البدء و بضربة واحدة ثم حصل فيما بعد نمو وتطور، فكل تفسير هو رد الشيء الذي نحاول تفسيره إلى المصطلحات التي بها تفسر من هنا. لكن ينبغي أن نحذر لأن هناك دائما خطر اسمه التفسير على الأشياء لأننا لا نأخذ الأشياء كما هي بل نحن نحاول ردها إلى شيء آخر غير ذاتها وهذا التحليل هو الذي نجده عند الماديين مثل أوغست كونت الذي يفسر الأعلى بالأدنى ويعزل الأشكال العليا في الأشكال الدنيا، فالذهن البشري لا يرضى إلا عند تعسفه على الأشياء ويرد الواقع إلى المفهوم والذي يوجد خارج من كل قيمة إلى ما يعتقد أن له قيمة .لا شيء أخطر على القيم مثل الخطر المتأتي من التفسيرات التاريخية لأنها تحطم بطريقة ناجعة أكثر مما تفسر لذلك لا بد من نقد التفسير المرتبط بالسببية. إن التفسير يقضي على ما في الأشياء من بني عميقة من كل سببية ويقتل ماهيتها. فهل يعني أن العلماء يتجاوزن منهج التفسير نحو الاعتماد على منهج التأويل؟ ألا يعني ذلك أنهم كانوا هرمينوطيقيين دون أن ندرى لم ينقطعوا لحظة عن قراءة كتاب الطبيعة المليء بالألغاز؟