لا يزال السؤال التقليدي الذي تنشغل به مختلف المنابر الفكرية والإعلامية، منذ عقود، يضغط بشكل غير مسبوق: لماذا تأخر العرب عن حضارة العصر؟.
تصفّح غوغل، يتيح رصد أعداد لا حصر لها من البحوث والدراسات، من مختلف الاتجاهات الفكرية، يتقاذف فيها أسباب الانكفاء الحضاري، علمانيون واسلاميون، من سياسيين واقتصاديين ورجال دين، وباحثين، فيما لم يسفر هذا الجهد عن نتائج محسوسة تساهم في تقليل الفوارق بين الأمم المتحضرة والمتأخرة، بعد ان تحوّل الى نقاش عبثي للدفاع عن المصالح والعقائد، لا الحقائق.
الجديد في الإشكالية الحضارية هذه، انّ الكثير من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، باتوا يٌخدعون بوهم تقلّص التفاوتات، لاعتقادهم ان حيازة الأدوات المادية من سيارة وتلفون ووسائل اتصال، وتقنيات، يجعلهم في مصاف الدول المتطورة، فيما الحقيقة ان التباينات تتّسع بشكل غير مسبوق، لا سيما في مجالات الاستقرار المجتمعي، والسلم الأهلي، والصناعات والابتكارات المحلية، والهوية الثقافية، والسلوك الحضاري.
وفي الدول النفطية الغنية، بشكل خاص، يكاد ينعدم تمييز الاختلافات الحضارية، بسبب الغشاوة على العيون والعقول التي تتسبّب بها الحضارة الخدمية الجاهزة، التي لا يبدع فيها المواطن، ولا يشارك فيها الا بقدر بسيط، حيث كل شيء مستورد وجاهز، وهو ما يحصل في العراق، على سبيل المثال، لا الحصر.
لقد نجحت الدول “النامية” انْ لم تكن “المتخلّفة” في جعل مجتمعاتها سوقا مفتوحة ليس للبضاعة المادية فحسب، بل
للسلعة الثقافية والفكرية، وهو انفتاح محمود، لكنها فشلت في التأسيس لسلعة وطنية على ذات المستوى من التأثير والأداء، وفيما اتخُمت الشوارع بالإعلانات الضوئية عن الأحزاب، والمشاريع الثقافية والمعرفية، والاقتصادية، فان هذه الكيانات تحوّلت الى نجوم ناجحة إعلاميا، لكنها فاشلة في التغيير والبناء وانتشال الناس من التخلف والضياع.
واستعارت الدول، تجارب منظمات المجتمع المدني، ومنتديات الحوار، والمؤسسات الاجتماعية، والبحثية، لكنها أصبحت في النتيجة أذرعا سياسية للقوى المتنفذة، وغرقت في الفساد.
وحتى في وسائل الإنتاج المادي، فانّ الذي استورد المكائن الانتاجية، أنتج سلعا فاسدة لا تضاهي المنتوج الأجنبي.
كل ذلك، يعود الى اعتماد الانقلاب الشكلي، والديكورات السياسية والاجتماعية والعلمية، فيما بقيت الأمراض والمشاكل، على حالها، بعد ان تحولت القيميّة الى ادّعاء.
أحد الأمثلة الشاخصة في عراق اليوم، العدد “المرعب” من الجامعات في مختلف المدن التي تخرّج مستويات متدنية
في العلم وتطبيقاته، وفي دولة مثل هولندا فانّ مهارات خريج مدرسة صناعة تتفوق على تلك التي يمتلكها خريج جامعة في العراق في ذات الاختصاص.
كما ان الفلاح الألماني يتفوق كثيرا في مهنيته، وابداعه وقدره على الابتكار، من الكثير خريجي كليات الزراعة ومعاهدها، في بلدان “العالم الثالث”.
أحد أسباب الترهّل في الانطلاق الى المستقبل الذي يمسح الفوارق الحضارية، هو بنية الانسان الفكرية، المدمنة على الأنماط الفكرية النقلية، التي تلتفت كثيرا الى الماضي، وتنظر من خلال ثقبه الى المستقبل، الامر الذي يجعلها تسير بأثقال من العقد التاريخية والدينية ومظاهر النفاق الاجتماعي.
وكان نتيجة ذلك، تحوّل الفرد الى شخص تنظيري عاطفي، ومجادل بارع في النصوص الدينية والسياسية والتاريخية، فيما الابداع والابتكار، ينحسر.
التكدسات الماضوية، وهي تتفاجأ بتطورات العصر السريع المستوردة وليست المستنبطة من قبل الفرد، ولّدت غالبية مشوّهة فكرياً وسلوكياً، قادت الى انفصام واضح في ذات الفرد، بين مثاليات تحفل بها النصوص المحفوظة عن ظهر قلب، وبين الواقع المرير الذي يعاني من نقص الخدمات في مختلف القطاعات.
انّ الارتهان إلى الخطاب الاجتماعي والسياسي، والإعلامي، الحالي سوف يعوق وظيفة العقل الجمعي الابتكاري،
لان التلقين والتربية في المدرسة والمجتمع القائم على النرجسية الماضوية، والافتخار بأمجاد غابرة، واليقين بانّ ما لدينا من معتقدات هي أفضل من مثيلاتها لدى الاخرين، تضغط على العقل، وتجعله أسير الحدود التي رسمها لنفسه، وتقذف به خارج معادلة التطور والانفتاح.