23 ديسمبر، 2024 9:43 م

الزعامة الدكتاتورية والنزوع لعسكرة المجتمع !!

الزعامة الدكتاتورية والنزوع لعسكرة المجتمع !!

في سياق هذا الموضوع نستخدم مفردة (الزعامة) عن قصد وتعمد ، بدلا”من المفردات الأخرى المقاربة لها في المعنى والمضاهية لها في الدلالة ؛ من مثل (القيادة) و (الرئاسة) . وذلك للتأكيد على الطابع السياسي / السلطوي الذي تحمله صيغة (الزعامة) ، بالقياس إلى تنوع الإيحاءات التي تشي بها بقية الصيغ ذات الصلة ، انطلاقا”من طبيعة الحدث أو الواقعة المراد وصفها ، فضلا”عن الهدف أو الغاية المنشودة من استعمال هذه المفردة بدلا”من تلك ، واللجوء لاستخدام هذا المصطلح عوضا”عن ذاك . ولعل من خصائص الشخصية الزعامية ومميزاتها ميلها المفرط ؛ ليس فقط لاحتكار رموز السلطة السياسية وشخصنة مؤسسات الدولة فحسب ، بل وكذلك تهميش الشركاء – إن كان هناك شركاء أصلا”- في الحكومة وإقصاء المنافسين في المعارضة ، وبالتالي فرض الهيمنة على كل مرفق من مرافق المجتمع السياسي ، وبسط السيطرة على كل قطاع من قطاعات المجتمع المدني . بحيث إن الشلل والخلل يصيب آليات وديناميات عمل الدولة ومؤسساتها ، جراء الاحتكام إلى مخرجات السلطة دون غيرها من جهة ، والإشاحة ، من جهة أخرى ، عن مدخلات العلاقات السياسية والتفاعلات الاجتماعية والتمثلات الثقافية التي لا معنى للسلطة من دونها . وهو الأمر الذي يفضي بالنتيجة إلى انتعاش عوامل صيرورة الظاهرة (الدكتاتورية) كفكرة / نمط داخل رحم السلطة ذاتها ، ومن ثم ظهور الزعامة الدكتاتورية كشخص / رمز إلى حيز الواقع ليلعب دوره القمعي ويمارس وظيفته الاستبدادية . ولأن الدولة كبنى ومؤسسات لا تقوم على مجرد أفكار وتصورات ، وان السلطة كأنظمة وقوانين لا تمارس على مجرد أشباح أو رسومات كارتونية ، بل إن تصور وجودهما (كدولة) فاعلة و (كسلطة) ناشطة ، يتطلب قيام مجتمع فعلي واضح القسمات ومحدد المعالم ، يتمتع بكل المقومات السياسية / الاقتصادية ، والمكونات الاجتماعية / الثقافية ، والخلفيات التاريخية / الحضارية ، والعلاقات الإقليمية / الدولية . التي لا تبرر فقط حيازتهما لعناصر القوة وتسوغ لهما استخدامها عند الضرورة فحسب ، وإنما تضفي على الأولى سلطان الهيبة وتسبغ على الثانية مظاهر الشرعية . بمعنى إن الدولة لا قيمة لها وان السلطة لا مبرر لها ، في حالة انعدام وجود مجتمع تمارس فيه وعليه السيادة من قبل الأولى والقدرة من قبل الثانية ، وبالتالي فان الحديث عن ظاهرة الزعامة – باعتبارها حلقة وصل وفصل في نفس الآن ، بين المجتمعين السياسي والمدني – يغدو في هذه الحالة نافلا”ولا موجب له. وبما أن المجتمع – أي مجتمع – هو عبارة عن كيان إنساني تتفاعل في وسطه وتتواصل في محيطه ؛ خليط من الأقوام / الاثنيات ، والأديان / الطوائف ، والثقافات / الهويات ، والتواريخ / الحضارات ، والسرديات / التمثلات . فان الأمر يتطلب قدرة هائلة ومرونة عالية على إدارة هذا المزيج البشري المتنوع ، بما يحقق وحدته الاجتماعية ، ويضمن مصالحه الاقتصادية ، ويصون حقوقه الثقافية . وبعكس ذلك فان الأزمات السياسية ستكون هي الفيصل ، والصراعات الاجتماعية ستغدو هي المنفذ ، لاستعادة المجتمع طابعه السلمي وإيقاعه المنتظم ، وهو كما نلاحظ خيار مكلف على جميع الصعد وكافة المستويات ليس من السهولة بمكان بلوغه . ولأن طبيعة الزعيم الدكتاتوري تتقاطع مع أي نوع من أنواع حرية الرأي والتعبير عن المعتقد من جهة ، وتتناقض ، من جهة أخرى ، مع أي شكل من أشكال النقد للواقع الاجتماعي المزري والتنديد بالأوضاع السياسية الخانقة . فانه مسوق ، بحكم تلك الطبيعة ، لتكميم أفواه الناقمين وتقييد أيدي المتضررين وتعصيب أعين المشككين ، وذلك باللجوء إلى قوانين الطوارئ وفرض الأحكام العرفية ، حيث تطلق له هذه الإجراءات التعسفية العنان لاستخدام قوة المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل سافر ، لإسكات معارضيه وقمع مناوئيه ، وبالتالي فرض إرادته خارج أطر الشرعية السياسية والمشروعية الدستورية ، حيث سلطة الزعيم الأوحد تعلو فوق سلطة الدولة وتجب هيبة القانون . ولما كانت القوة العارية تغري كل من يمتلك سلطة ، باعتبار كونها تشكل عنصرا”أساسيا”من عناصر الردع لكل من تسول له نفسه الإساءة لصاحب السلطة والتطاول على سلطانه ، فضلا”عن جعلها سياج الحماية الذي يقيمه حول عرين مملكته .فان خيار عسكرة المجتمع سيكون – بالنسبة للزعيم الدكتاتوري – من أفضل الحلول وأنجعها ، دون أن يعي مساوئ هذه الخطوة اليائسة من جانبه حيث ستكون بمثابة الأسفين الذي يدق بين الحاكم والمحكوم ، وبالتالي الإشارة للشروع بدق المسمار الأخير في نعش السلطة . والجدير بالملاحظة إن سرعة وسهولة حسم الأزمات السياسية التي تنشأ ما بين السلطة والمجتمع ، غالبا”ما تغري الزعيم الدكتاتوري للذهاب بعيدا”في توظيف عناصر القوة العسكرية والأمنية ، والاعتماد على قدراتها الردعية والقمعية ، الأمر الذي يخلق لديه انطباع وهمي مفاده ؛ إن القوة هي المفتاح السحري لحل كل المشاكل

وتسوية كافة العقبات ، التي تواجه السلطة من النمط الدكتاتوري عادة . وهنا يتحول الاستثناء إلى قاعة ثابتة ، والإجراء الوقتي إلى إدمان دائم . ولعل نمط السلطة الحالية في العراق يعكس لنا الكيفية النموذجية ، التي من خلالها يحتمي الزعيم الدكتاتوري بظاهرة العسكرة لأغلب قطاعات المجتمع ، فضلا”عن السماح لأكثر نوازع العنف الاجتماعي بدائية بالتفشي والانتشار ، لاسيما تلك التي تميل إلى جعل العنف يأخذ طابعا” دينيا” /طائفيا”، حيث العسكرة تنقلب إلى حرب الجميع ضد الجميع ، طالما أن المجتمع ( = العراقي) لا يعاني فقط الاستقطاب والاحتراب على أسس دينية / طائفية فقط ، بل ويعاني كذلك التصدع والتصارع على أسس قومية / أثنية ، ناهيك بالطبع عن توقع تمزقه وتفرقه إلى كانتونات قبلية / عشائرية ! .

*[email protected]