22 ديسمبر، 2024 6:12 م

الرّؤية الإسلامِية بين شرق المنبت وغرب التلقي

الرّؤية الإسلامِية بين شرق المنبت وغرب التلقي

يخبرنا الأستاذ عباس محمود العقاد بحقيقة ماتعة مفادها أن قراءة كتب فلسفة الدين وتراجم العظماء تؤدي جميعا إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان ، ويؤكد على رهان لا يزال قائما وهو أن الكتب طعام الفكر وتوجد أطعمة لكل فكر ، كما توجد أطعمة لكل بنية ، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام ، وكذلك الإدراك القوي الذي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع .
هذه التقدمة جاءت ضرورية ، بل وأكثر واقعية وأنت بصدد إعادة قراءة كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش الرئيس السابق للبوسنة وقائدها السياسي وزعيمها الفكري والروحي كما طاب هذا التوصيف للمفكر المصري الموسوعي الدكتور عبد الوهاب المسيري . وفكرة الزعامة الفكرية لبيجوفيتش أتت من كونه صاحب اجتهادات واسعة ومهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيباتها ، وهو ـ علي عزت بيجوفيتش ـ كان أكثر الزعماء المهمومين بعلاقة الإنسان بالطبيعة ، باحثا عن نظام فلسفي دقيق يحكم تلك العلاقة .
ولعل اجتهاد علي عزت بيجوفيتش نتيجة منطقية لجهاده المستدام ، وشتان بينه وبين رؤساء آخرين مهمومين بتفكيك القوى العربية الكبيرة على حساب كيانات سياسية أكثر صغرا ، في الوقت الذي كان فيه بيجوفيتش مرهونا بالدفاع عن قضايا بلاده ، لذا استطاع بحق أن يصبح بيجوفيتش على توصيف الدكتور عبد الوهاب المسيري أن يحظى وحده بلقب المجاهد المجتهد ، ويلعب منفردا دور الفارس والراهب ، في التوقيت الذي لهث فيه كثير من الأمراء والحكام العرب آنذاك بالتطبيع الصهيوني والمقامرة مع الإدارة الأمريكية لتحقيق مآرب شخصية بل أسرية أيضا أي على نطاق الأسرة كما كان الحال مع التونسي زين العابدين بن علي .
وكتاب الإسلام بين الشرق والغرب للرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش لا يعد مهما كونه كتابا لرئيس دولة فحسب ، بل لأنه كتاب رصد الملامح التي تحكم العلاقة بين الشرق والغرب والمحاولات التي تسعى ولا تزال للقضاء على الإسلام الذي يشكل صداعا كبيرا في عقول الموتورين في الغرب .
وجاء الكتاب نتيجة دراسة واسعة ومتعمقة للواقع الغربي لاسيما الأمريكي الذي طالما يتفاخر بحضارته وإن صح التعبير بثقافته لأن الغرب لم يصل بعد إلى حيز الحضارة التي يمكن تسجيل ملامحها بالسنوات البعيدة ، هذا الغرب المتفاخر دوما سجل أعلى معدلات الجرائم الأخلاقية كالاغتصاب والزنا واللواط بل أعطى لهم حقوقا لا تزال مشروعة هناك كالاعتراف بالمثليين ، أيضا هذا الغرب المتباهي وسط فقرنا المعرفي عنه سجل أكبر معدلات للانتحار ليس نتيجة للرفاهية كما تزعم بعض وسائط الإعلام ، إنما نتيجة حتمية للفراغ الروحي والخواء الفكري .
وكانت معرفة النظام الرأسمالي الذي يتحكم في أنماط الحياة الغربية شرطا رئيسا لفطنة التوجه نحو الإسلام والمسلمين لاسيما وأن الإسلام بطبيعته السمحة يعلي الجانب الروحي والفكري للإنسان مع اهتمامه أيضا بجوانبه المادية الأخرى ولكن بصورة أكثر اعتدالا . وكثيرا ما أشار علي عزت بيجوفيتش الثقافة الروحية، فهو يعلق على ذلك الملمح الرصين في حياة الإنسان بقوله ” يمثل الدين والعقائد والدراما والشر والأخلاق والجمال وعناصر الحياة السياسية والقانونية التي تؤكد على قيم الشخصية والحرية والتسامح ، يمثل كل هذا الخط المتصل للثقافة الإنسانية الذي بدأ مشهده الأول في السماء بين الله والإنسان ” .
وأجدر ما ينبغي الإشارة إليه في ثنايا كتاب الإسلام بين الشرق والغرب للرئيس البوسني الأسبق بيجوفيتش هو سؤال الدهشة المطروح حول أصل الإنسان ، وفي هذا السؤال يفند علي عزت بيجوفيتش طروحات الماديين والعلمانيين حول التفسير المادي للإنسان ، محاولا إيجاد ثغرات علمية تدحض هذا الزعم العبثي ، فهو يحاول إثبات عجز النموذج الدارويني في التطور في تفسير ظاهرة الإنسان ، وهو في سبيل ذلك يبين أنه من المستحيل تصديق أن الإنسان نتيجة تفاعلات كيميائية تمت بالصدفة وأدت إلى خلايا بسيطة ثم تطورت إلى أن أصبحت الإنسان .
جميل الكتاب ليس كونه سطورا في فلسفة الدين وأصل الإنسان وتركيباته النفسية والروحية والمادية وعلاقته بالكون والطبيعة ، إنما جميله ومعروفه أيضا أنه طرح فكري صدر عن رئيس وزعيم فكري لشعب أصيل عانى وقاسى ويلات الاضطهاد والتمييز الديني ، وجاء ليدحض مزاعم الغرب المادية ومدافعا عن هذا الهجوم الضاري صوب الإسلام الحنيف . وتبقى رصاصة الرحمة التي أطلقها علي عزت بيجوفيتش للفكر المادي قائمة حينما أعلن عجز رواد النظرية الداروينية في تفسير الظواهر الثقافية للإنسان لسبب بسيط وهي أن الظواهر تلك تقف متعالية عن التركيب المادي الذي أسهبوا في تفسيره بل وتقف بمنأى عن التبريرات المادية مفارقة لها .
وعلي عزت بيجوفيتش يدحض مجددا الفكر المادي المسيطر على العقل الغربي حينما يؤكد أن الإنسان استطاع الارتقاء عن نظريات تفسيره المادية الضيقة من خلال مظهرين أساسيين له ؛ الدين والفن ، وهو في ذلك يشير بقوة إلى الأخلاق المادية النفعية المسيطرة والمهيمنة على الشباب في دول الغرب ، ويطرح فيجوفيتش تساؤلا مثيرا لدهشة التلقي والتأويل : لماذا توقف الإنسان عن تحسين كفاءته في الصيد ليقوم ببعض الشعائر التي لا معنى لها من منظور مادي نفعي ؟ . السؤال نفسه يطرح أسئلة أخرى مثل ما الهدف من الوجود والبقاء ؟ هل هناك آليات لاستمرار بقاء روحي للإنسان ؟ . ومثل هذا الطرح الفلسفي هو إعلاء وإعلان عن حياة روحية للإنسان أرقى من حياته المادية النفعية وارتباطه بقوة غيبية أعلى تلهمه الصواب وتمنحه قدرا كبيرا من التعامل الراقي مع الكون والطبيعة .
ويطرح علي عزت بيجوفيتش نظريات ثلاث حول وجهات نظر العالم التي تحكم تفسير الإنسان لطبيعته ؛ فرؤية مادية ترى العالم مادة محضة ، وهي نظرة تنكر أية تطلعات روحية للإنسان ولاشك أن هذه النظرة الضيقة هي التي أودت بالشباب الغربي إلى مهالك أخلاقية كالزنا والتحلل القيمي والانتحار وعمليات التحول الجنسي وغير ذلك من مثالب مهلكة .
ورؤية دينية مجردة تتسم بالروحية الخالصة باعتبار الدين تجربة روحية فردية تنكر كل احتياجات الإنسان المادية ، ودلل على ذلك بالمسيحية .
أما الرؤية الثالثة والأخيرة حسب الطرح الفلسفي لبيجوفيتش فهي الرؤية الإسلامية التي تعترف بالثنائية المعتدلة للإنسان ، التي تتجاوز الرؤيتين السابقتين عن طريق توحيد طبيعي بين المادة والروح ، حيث إن الإسلام الحنيف استطاع أن يخاطب كل ما في الإنسان ، وهو الديانة التي أقرت بأن الإنسان هو وحدة الروح والجسد .
ويقر علي عزت بيجوفيتش بأن هذه الثنائية باتت صعبة التفسير والتلقي لدى الغرب غير المسلم ، وهذه الثنائية نجدها متقابلة باتفاق واضح في مصدري الإسلام القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) . وراح المجاهد المجتهد بيجوفيتش يرصد كل ملامح ثنائية الروح الجسد في أركان الإسلام الخمسة وأيضا في مهارتي اللغة القراءة والكتابة .
وإذا كان المفتتح عند أستاذنا العقاد ، فعنده أيضا المختتم ، فهو يرى أن الوصول بالعقل إلى معرفة الله هو أسمى درجات الإيمان وهو الأمر غائب الصلة والاتصال عن العقل الغربي المفرط في ماديته ، والاكتفاء هنا ونحن بصدد الحديث عن الإيمان بتساؤل بيجوفيتش هل الأخلاق ممكنة بدون إله ؟ بالطبع لا رغم أن هناك ملاحدة على أخلاق ، لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي ، وهذا المسعى هو مطمح الغرب الذي يحاول إنتاج أجيال كاملة لا تذعن لقوانين الدين وضوابط العقيدة ، ويبقى الدين هو الملمح الأصيل الثابت في حياة الإنسان الذي يقنن مثاليته ويجعله الحدث الأهم والأبرز في تاريخ الكون .
أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية(م)
كلية التربية ـ جامعة المنيا