18 ديسمبر، 2024 8:02 م

عندما كنا في المدرسة، كانت هناك مادة تتكررعلينا في منهج الجغرافية، وتعد من المرشحات المهمة في الأسئلة الإمتحانية، وتتعلق بأسباب تراجع الزراعة في العراق، ويأتي السبب الأول الذي يتفرع منه أسئلة أخرى على شكل ” علل مايأتي”، وهو هجرة الفلاح من الريف الى المدينة، وترى المعلم يسهب في شرح الأسباب ، محملاً الإقطاع المسؤولية الأولى عن هروب الفلاح من ظلم ” المحفوظ” وهو رجل الإقطاع ” مالك الأرض الزراعية” الذي كان يصوّر في أذهاننا وكأنه مصاص دماء يشاركه في هذه المهمة وكيل أعماله ” السركال” الذي كان يشكل مصدر الرعب للفلاح المسكين المغلوب على أمره، والذي يكد من تباشير الصباح الأولى الى المساء في أرض ” المحفوظ” ثم بالكاد يحصل على قوت يومه وقوت عياله، ويا ليت ينال الرضى، أو يسمع كلمة مديح واحدة، بل يلاحقه ” السركال” بعد يوم متعب بأقذع الألفاظ ناهيك عن الضرب، وحتى القتل، ورسخت المسلسلات العراقيةهذه الصورة في الأذهان، وأصبحنا نرى الإقطاعي في مناماتنا كـ ” البعبع”، لكن والشهادة لله كانت الزراعة في العراق في زمن الإقطاع زاهية، والسوق العراقية عامرة بالمحاصيل العراقية المختلفة، ونادراً ماترى ” رز” أو ” حنطة، أو ” خيار” أو ” طماطة” أو ” نومي حامض” مستورد، بل العكس كان العراق يصدر الى دول الجوار وغيرها حتى البيض والدجاج، أما الأسباب الأخرى للهجرة فهي الإهمال وسوء التغذية، وانعدام الخدمات الصحية، و” كوشر” من المعاناة التي تضاف مع كل نظام جديد يأتي لـ ” يشمر على رؤوس التلاميذ” إنجازاته العظيمة للفلاح، فيما تتراجع الغلة الزراعية يوماً بعد يوم حتى وصل بنا الحال الى إستيراد ” البصل”، ” والكرفس” بالطريق.
وإذا كنا نراهن على البصرة جنوباً، وكركوك شمالاً، في بناء إقتصادنا الوطني إعتماداً على النفط، فإن الريف العراقي لايقل أهمية في بنية الإقتصاد، وفي الحد الأدنى تحقيق الإكتفاء الذاتي ومنع إستنزاف العملة الصعبة في إستيراد المحاصيل الزراعية، فيما يشكل الريف سلة العراق والعالم الغذائية لو إستطعنا حقاً إستثمار الأرض والمياه بشكل صحيح.
لقد ذهب الإقطاع وولى منذ سنين بعيدة، وحل الإصلاح الزراعي الذي رفع شعار “الأرض لمن يزرعها”، لكن واقع الريف العراقي في أسوأ أحواله،  ونسبة الفقر فيه أعلى من المدينة، بحسب مصادر رسمية، ولم يزل يعاني من ذات المفردات التي كنا صغاراً ندرسها : الجهل، التخلف، الظلم، الإهمال، إنعدام الرعاية الصحية… أضف اليها سبب آخر جوهري ومهم هو ضياع الأرض الزراعية.