18 ديسمبر، 2024 6:06 م

الرواية اليابانية : كاواباتا وموراكامي وآخرون

الرواية اليابانية : كاواباتا وموراكامي وآخرون

عرفت أن للرواية اليابانية نكهة خاصة مذ قرأت، في الثمانينيات رواية ياسوناري كاواباتا ( بلاد الثلوج ) بترجمة الروائية العراقية لطفية الدليمي.. استهوتني تلك اللمسة الشاعرية الرقيقة وذلك التهذيب الياباني الراقي وذلك الحنان بالتعامل مع الكلمات لاسيما في أثناء رسم الشخصيات ووصف الطبيعة المتجلي في أسلوب ورؤية المؤلف والذي انعكس على لغة النص الروائي ونسيجه على الرغم من أن ذلك النص كان يتحدث عن فتيات الجيشا اللواتي يقمن بتقديم خدمات متعة للرجال الأثرياء في بيوتات خاصة. وستتأكد عندي هذه القناعة أكثر بعد قراءتي خمس روايات أخرى في السنوات اللاحقة لكاواباتا: البحيرة، حزن وجمال، ضجيج الجبل، العاصمة القديمة، ومنزل الجميلات النائمات..
حصل كاواباتا على جائزة نوبل للآداب/ 1968 والذي انتحر بخنق نفسه بالغاز في العام 1972 لأسباب غامضة. أو ربما حزناً على انتحار صديقه وتلميذه الروائي الشهير يوكيو ميشيما الذي انتحر على طريقة الهاراكيري ببقر بطنه احتجاجاً على تغرّب اليابان وفقدانها، على إثر ذلك، لروحها الحقيقية الأصيلة كما كان يعتقد. وهو الأمر الذي فعله قبلهما روائي ياباني آخر هو أوزاما دازاي المنتحر في العام 1946. هذه الميتات التراجيدية أضفت مسحة اسطورية على سير حيوات الكتّاب اليابانيين وأعمالهم.
   بحذر وتردد شرعت بقراءة رواية ( حزن وجمال ) ربما لتقليدية عنوانها. وفوجئت بروعة العوالم التي خلقها كاواباتا فيها؛ هو البارع في التحدث عن الحب والجمال والموت والعلاقات البشرية والطبيعة بلغة دقيقة رائقة وشفافة. وهذا ما نلمسه في رواية ( البحيرة ) أيضاً. لكني لا أدري لماذا لم أستطع إنهاء قراءة رواية ( ضجيج الجبل ). فيما حرضتني قراءتي لرواية ( العاصمة القديمة ) على الكتابة عنها. وفيها يستدرجنا كاواباتا في جولات ممتعة بين مهرجانات اليابانيين وأعيادهم، ويطلعنا على قيمهم الأخلاقية ونمط حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ورؤيتهم إلى ذاتهم والعالم.. أي باختصار على جوهر ثقافتهم وفكرهم.
    قرأت رواية ( منزل الجميلات النائمات ) في الوقت نفسه الذي قرأت فيه رواية ماركيز: ( ذكريات غانياتي الحزينات ) والتي استلهم فيها ماركيز جوهر رواية كاواباتا كما لو أنه أعاد صياغة الرواية اليابانية من وجهة نظر أخرى تنتمي لعاطفة قارة أمريكا اللاتينية المتوهجة وغرائبية واقعها وأدبها. وفي مقال كتبه في العام 1982 سيعترف ماركيز بأن رواية كاواباتا هذه هي الوحيدة التي كان يتمنى أن يكون كاتبها. وتتمحور ثيمتها حول الشغف الأخير للشيخوخة للإمساك بالجمال العاري بوساطة الحلم حيث يرقد العجائز إلى جانب فتيات شابات يغطن في نوم مخدر ولا يحق لهم لمسهن.. إنه التأمل السار الأخير واليائس على حافة الموت.
الرواية اليابانية المدهشة الأخرى التي حظيت بقراءتها كانت ( امرأة في الرمال ) لكوبي آبي: كاتب لم أقرأ له من قبل ولم أقرأ له من بعد.. تحكي الرواية عن محنة الوجود الإنساني، وهشاشة وضع الإنسان، وعبثية مصيره، وكفاحه البروميثيوسي أو قل السيزيفي من أجل الخلاص. وعبر منظور كافكوي جرى توظيفه واستثماره بحذاقة.. رجل يهوى جمع الحشرات يختفي في ثنية ما من صحراء لا تكاد تنتمي لعالمنا، وهناك يُجبر على الزواج بامرأة والعيش معها في بيت يشبه الحفرة التي تذكِّر بالقبر، تهاجمه الرمال أبداً، ومهمة الرجل هي أن يزيح الرمال من غير كلل كي لا تغمر المكان الذي هو فيه مع تلك المرأة. ومحاولاته في الهرب تخفق المرة تلو المرة تماماً مثل بطل رواية القصر لكافكا الذي لا يعرف طريقة للوصول إلى إدارة القصر لتحديد وضعه الإشكالي في القرية، ولا يملك فكرة عن كيفية الخروج من هذا المأزق الوجودي الذي وجد نفسه واقعاً بين ثنايا شبكته المرعبة.
أما من أذهلني أكثر من كتّاب اليابان فهو الروائي المعاصر هاروكي موراكامي سليل أولئك الروائيين العظام الذين أغنوا الأدب السردي العالمي بروائع تعكس خصوبة المخيال والفكر اليابانيين.      
موراكامي ورواية: رقص
يكتب هاروكي موراكامي عن اليابان المعاصرة.. اليابان التي تلبّست الروح الرأسمالية وتمثلت الغرب، وتعيش حالة هجنة حضارية، ولها مشكلاتها المشتركة مع البشر وتلك الخاصة بها. فهو يصوّر حياة اليابان التي ذوّبها نمط الحياة الاستهلاكي وطبعها بطابعه بعيداً عن التقاليد والقيم الموروثة، أو نكاية بهما.  وشخصياته هي من النخب اليابانية المثقفة والمتعلمة، وكذلك المتنفذة في المجالين الاقتصادي والسياسي.. وموراكامي نفسه نراه متأثراً إلى حد بعيد بالثقافة الغربية وبأسلوب كتابة الرواية الحديثة من حيث التقنيات والأساليب والرؤى. أما طريقة كتابته فتختلف لغةً وحساسية عن طرق أسلافه من الروائيين اليابانيين العظام: ميشيما، كاواباتا، كوبي آبي وغيرهم، وإن كان الأقرب إلى الأخير. ففي عالم كلا الروائيين يتخلل الخيال نسيج الواقع ويبدِّله، وتتلاشى الحدود بين المحسوس وما ورائه.
تبدأ رواية ( رقص، رقص، رقص/ ترجمة أنور الشامي.. المركز الثقافي العربي 2011 ) من واقعة حلم متكرر يراه الراوي ويشكل مفتاح الثيمة كلها: وهي ثيمة مركّبة من الصعب تلخيصها بعبارة واحدة أو ببضع جمل قصيرة. في ذلك الحلم يجد الراوي نفسه عالقاً في فندق ضيق، قائم في عالمنا الحقيقي، اسمه ( الدولفين ) يحوطه ( في الحلم ) من كل جانب ويحس حرارته ونبضه، فيما هناك شخص ثانٍ يبكي.. وحين يستيقظ يتساءل: أين أنا؟. ذلك السؤال الذي يكتسب بعداً وجودياً مقلقاً.. ويعكس هاجس الهوية عند الإنسان والمجتمع، والبلاد عموماً.
في فندق الدولفين القديم أضاع الراوي امرأة اسمها كيكي كانت معه.. تخرج ولا تعود.. سيشاهدها فيما بعد تمثّل في مشهد قصير من فيلم تافه إلى جانب ممثل وسيم يتعرف عليه الراوي كونه زميل دراسة.. ومن هنا تتشعب الأحداث في إطار واقعي مشرّب بالفانتازيا، وينحو السرد منحى غرائبياً، لاسيما حين يعود الراوي إلى الفندق ذاته فيجده بناءً حديثاً وفارهاً يحمل اسم الدولفين أيضاً لكنه يختلف عن البناء القديم في كل شيء.. هل بمقدورنا أن نفترض أننا إزاء صورة رمزية لواقعة الصراع بين روح اليابان القديمة والأخرى الحديثة. “لقد اختفى فندق الدولفين القديم. ومع ذلك ظل حضوره جاثماً، أسفل فندق الدولفين هذا، الممتد عبر القارات، ووراءه، وبداخله”.
   وإلاّ ما فحوى النداء الذي يأتيه عند ذلك الصدع الذي يعبره ذات ليلة، في مكان معلّق بين الواقع والحلم.. نداء غامض يطلقه رجل مقنّع يقبع في طابق قديم من فندق الدولفين الحديث.. طابق ينزلق في زمن آخر غير الزمن الواقعي المعاش، كأن الفندق الذي أُزيل عن الوجود ما يزال، بشكل ما، متلبِّساً في كتلةِ ما شُيّد لتوِّه.. طابق خفي لا ينفتح إلا لبعض قليل من النزلاء والموظفين كما لو أن في الأمر مكيدة مدبّرة. شيء لن يفهمه الراوي أبداً وقد تسبب فعلاً في مقتل واختفاء أشخاص عديدين.. وذلك النداء الذي يتلخص بالأمر/ الوصية: ارقص، ارقص، أهو دعوة للتناغم مع الحياة، والطبيعة والذات، والتواصل مع الآخرين.. أهو تحريض ضد العالم القائم الذي تخلى عن براءته في عصر فقد بوصلته الإنسانية وطغى عليه الجشع وحيث الفرد يحيا غربته الخاصة معزولاً ومهدداً من قبل قوى مجهولة.
   تُوازنُ وحشة الأجواء التي يعيشها الراوي ما يجده من دفء وصدق في علاقة صداقة بريئة وعميقة مع طفلة تقترب من سن المراهقة اسمها يوكي يقلّها معه من مدينة إلى أخرى بعد أن نسيتها والدتها المصورة المشهورة في الفندق وسافرت إلى أفريقيا فتخبر معه دراما الأحداث ببعديها الواقعي والغرائبي.
   إنها رواية تتحدث عن رعب الوحدة، وهشاشة الصلات الاجتماعية، في أمكنة مزدحمة، تتحول بسرعة، وتتضخم، ولا تأبه للفرد الذي يمكن أن يُسحق في أية لحظة ويُنسى.. يخاطب الراوي عاملة الاستقبال في فندق الدولفين الحديث التي تعرّف إليها في الفصول الأولى من الرواية وحدّثته عن تجربة الطابق الثامن غير المعقولة قبل أن يمر بها هو:
   “يوميوشي، لا تتركيني وحيداً… من دونك سوف يُلقى بي في أقاصي الكون. أرجوك، أريني وجهك، اجعليني ألزم مكاناً ما. شدّي وثاقي إلى هذا العالم. لا أريد أن ألحق بالأشباح”.