5 نوفمبر، 2024 1:56 م
Search
Close this search box.

الرواية النَّسَوية – النِّسْوية العراقية وإشكالية المثقف

الرواية النَّسَوية – النِّسْوية العراقية وإشكالية المثقف

يذكرنا ما جاء في المقالة الموسومة ” تقويض السلطة الذكورية في الرواية النّسوية العراقية” للكاتب كاظم فاخر الخفاجي والكاتبة سهام جواد كاظم الصادرة في “المجلة الدولية للعلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 20، شهر نيسان \ أبريل2021، بالعهد الفيكتوري، في بريطانيا، وسخرية الإعلام من المرأة المتحررة ومطالبها. ففي “رواية المرأة الجديدة” آنذاك، تعلو أصوات النساء اللواتي تجرأن على كسر حاجز الصمت والتغلب على الخوف من الاستياء، وذلك في تسعينيات القرن التاسع عشر(1) ، حيث كانت بداية جنس أدبي فرعي سُمّي لاحقا “الرواية ألنَّسَوية”.
اشكالية الحركات النِّسْوية – النَّسَوية
ونبدأ بالغموض المتعلق باستعمال مفهوم الرواية النِّسْوية والحركة النَّسَوية؛ فالأولى تشير إلى الرواية المنسوبة “جندريا” إلى الكاتبات. أما الأدب النَّسَوي فهو يسلط الضوء على اشكالية وضع المرأة، وبالأخص وضعها الاجتماعي. كما أن السعي لتحقيق المساواة في الحقوق بين الجنسين أمر أساسي في هذا الصدد. ويحاول الأدب النَّسَوي توضيح وضعية المرأة الغير مواتية مقارنة بالرجل.
إن مفهوم “النَّسَوية”، الفمنزم feminism، يختلف نسبيا حسب المعاجم.
فمعجم اوكسفورد يعرفها بأنها اعتراف بأن للرجال وللنساء حقوق وفرص متساوية في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية.
وهي أيضا “النظرية الداعية إلى المساواة بين الجنسين على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتهدف كحركة سياسية إلى القضاء على التمييز الجنسي الذي تعاني منه المرأة”، بحسب معجم ًWebster.
كما لابد أن نشير هنا إلى أن النَّسَوية ليست موحّدة في تبنّيها لمبادئها ولا تقوم على مصدر واحد وليس لها هدف موحّد. بل هي تُغذى من المعطيات الثقافية والاجتماعية المتباينة.
ومن أشهر مدارس الحركة النَّسَوية ثلاث:
النَّسَوية “الليبرالية”: وتعتبر هذه المدرسة امتدادا للثورة الفرنسية. تناضل من أجل قوانين متساوية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. فهي تؤمن بفكرة قدرة الرأسمالية على إنصاف المرأة ومنحها حقوقها كاملة. كما ترى أن منح المرأة فرص التعليم والعمل تساعدها على نيل حقوقها كاملة.
النَّسَوية “الراديكالية”: يتصف هذا التيار بتعصبه الشائع للمرأة التي يعتبر أنها في حالة عداء مع الرجل وأن البنيات الاجتماعية (العلم، التاريخ، اللغة) بنيات متحيزة للذكر. بحيث أصبح ينادي بانفصال النساء عن مجتمع الذكور المسؤول حسب رؤيته عن قهر المرأة منذ الأزل. ويعتبر أنصاره أن الأبيسية – الأبوية بحد ذاتها هي أساس التمييز ضد النساء والسيطرة عليهن. ولا نعتقد أن الرواية “النسائية” العراقية تنتمي إلى هذا النوع.
النَّسَوية “الماركسية”: يضفي هذا النوع صيغة إضافية إلى التفسير المعروف الذي تقوم عليه الحركات النسائية وهو أن الذكور مصدر الهيمنة بكل أشكالها، وهذه الصيغة تتجلى في ربط معاناة النساء بالتفاوت الطبقي، بالتالي فخلاص المرأة من واقع التهميش لن يحصل إلا بزوال النظام الرأسمالي والقضاء على التفاوت الطبقي.
وهناك أيضا النَّسَوية التابعة لتنظيمات إسلاموية والتي ترفض مقاربة النوع الاجتماعي – الجندر، بحجة أنه مستورد من الغرب وحامل لمبادئ دخيلة للأمة الاسلامية. وهناك حركات نَسَوية أخرى تدافع عن حقوق الأقليات، منها المرأة السوداء والمثليين والمرأة الأوروبية من أصول غير غربية وغيرها.
وهكذا كان الأدب النَّسَوي مصحوبا بظهور النقد الأدبي النَّسَوي، والذي تم توسيعه لاحقا ليشمل دراسات الجندر أي النوع الاجتماعي. كما أن النَّسَوية هي عبارة عن مجموعة من التيارات الاجتماعية والسياسية، وأما الجندر فهو وسيلة تُحلل بشكل نقدي علاقات القوة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة وتسعى إلى تحرير المرأة وإلى القضاء على التمييز القضائي والقانوني والعملي وإلى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. كما أنها تعزز الاستقلالية الجسدية للمرأة والقضايا ذات الأهمية بطريقة متساوية ومتوازنة، وتحارب العنف الجنسي والمنزلي وجميع أنواع التعنيف والتمييز ضد المرأة.
هذا باختصار شديد عن الحركة النَّسَوية، التي لاحظنا أن الكاتب استعمل أحيانا الرواية النّسوية بدون تحريك النون وترجمها بالإنجليزية في الملخص مرة بالرواية النسائية ومرة أخرى بالرواية النَّسَوية. ولِنغلق هذا الباب، ونستشهد بروبرت همفري الذي يقول، حتى مع إمكان وجود اختلاف عام في وجهتي النظر بين الجنسين، الرجل والمرأة، فإن المشكلات والمواقف الأساسية في الحياة ثم في الفن تبقى لا هي مؤنثة ولا مذكرة، وإنما هي ببساطة إنسانية(2).” كما يتساءل أندريه بوران قائلا: “لا أحد يحلم أو يتخيل الحديث عن رواية ذكورية. فسيكون آنذاك الأمر مضحكا وسخيفا. لكننا نتحدث بشكل طبيعي عن رواية أنثوية وفقط القليلون منا مندهشون أو مستاؤون من ذلك. ويتساءل لماذا (3)؟”
ففي توطئة المقال يذكر الخفاجي، بأن “السرد النّسَوي تناول صورتين للذكر كردّة فعل على الخطاب الذكوري المهيمن؛ فكانت الأولى للذكر المسيطر والذي ينظر إلى المرأة بالدّونية والثانية صورة الرجل العاجز والضعيف… لذلك يحاول السرد النّسوي بلا وعي، حسب الكاتب، غالبا كوسيلة للانتقام من الذكورة أن يفقد الذكر آلة ذكورته بوصفها علامة التميز الوحيدة الفارقة، أو يظهره شخصا عاجزا ضعيفا (4).” فلما هذه المبالغة! كأن همَّ الروائية العراقية الوحيد هو شن حرب على الرجل من خلال شخصياتها.
هكذا ننطلق من فكرة أن إعادة قراءة الروايات، كما يقول محمد برادة، تكون مخصبة أكثر إذا أنصتنا أيضا إلى أن تحولات النص الروائي، وبخاصة على مستوى التعدد في أساليب البناء والثيمات (5). لذك نجد أن المتون السردية للروائيات العراقيات تعالج مواضيع حساسة جدا وأحيانا مؤلمة. وقد قُمْنَ، وما زِلْنَ، بمجهود جبار لتوثيق فترات مختلفة من تاريخ العراق ومعاناة المرأة بالأخص والرجل أيضا.
نعود إلى النصوص السردية المتناولة في مقال الخفاجي. ونحاول أن نلقي الضوء على ثيمة “تقويض الذكورية” و”ازدواجية المثقف” في بعضها. فحازم المخصي طليق حياة البابلي في الرواية الموسومة “سيدات زحل” للروائية لطفية الدليمي انسان يساري معاد للنظام. اعتقل وخضع للتعذيب بحيث أطلقوا سراحه مخصيا وهذا يعني موته العضوي والنفسي والمعنوي. حازم المخصي تحمّل تبعات فكره ولم يتراجع. فهو مثل للمثقف الذي يعبر عن هويته، بما يصفه بيتر بيري، بالنمط الثابت نسبيا من العواطف والأفكار والمواقف في خدمة السياسة والمواطنين. فالروائية تنقل لنا صورة انسان قضي عليه وهو حيٌّ- ميّت. ونلاحظ أن النصوص السردية للروائيات العراقيات تعرّي وتسجِّل في الوقت نفسه معاناة الرجل إبان النظام البائد، الذي استعمل اساليب التعذيب المختلفة ومن ضمنها تقويض ذكورية معارضيه لتحطيمهم بكل ما في الكلمة من معنى. لكن الضرر سقط على النساء مضاعفا، فهن استقبلن أزواجهن جثثا أومعوقين وزاد “همس النساء عن عطب الرجال العائدين من الحرب وعجزهم (سيدات زحل ص51).” أما حامد فهو الرجل الوحيد في شارع النساء، ضعيف ومقطوع اللسان. وهذا ايضا يرمز إلى تقويض ذكورية الرجل اليساري الملتزم، ويؤرخ فترة قطع الآذان والألسنة لمعارضي نظام البعث البائد.
السارد ليث، في رواية صبيحة شبر “راحلون رغما عن أنوفهم”، اصابه العجز الجنسي بسبب إثم ارتكبه. لقد خان أمّه، الغير بيولوجية، وزوجته، لاحقا. وتعدى على الأخلاقيات التي تربى عليها؛ فتزوج سرا من امرأة أخرى بأموال زوجته دون علمها. فصحوة ضميره جعلته يُقرّ:” أراجع طبيبا إني مصاب بعجز مبعثه الشعور بالإثم، وأن هذا المرض يصيب الرجال في وقت معين…(ص 6)” فالسارد ليث يتيم؛ شهد بأم عينيه مقتل والديه على يد أحد جلاوزة النظام البائد واعتقال شقيقيه وشقيقتيه، وكان ذلك يوم عيد ميلاده الخامس. فلا عجب إذا أصابته، يوما، العنة!
في رواية ” منازل الوحشة” للروائية دنى غالي، يعاني أسعد من أزمة نفسية حادة بعد تجربة اختطافه والتي تركته انسانا منخورا لم يستطيع استيعابها، فتقول عنه زوجته:” الطريقة التي تمَّ اختطافه بها خلّفت فيه انسانا معطوبا يسير في البيت مثل آلة.” فالعوز والأزمة النفسية والفكرية وسخرية زوجته المتسلطة، كل هذا يسبب له العنة مؤقتا مع زوجته لكنه عندما يهرب منها يصبح طبيعيا مع غيرها. وهذا طبعا يعود إلى وضع الشخصية السيكولوجي. وبحسب تحليل الكاتب الخفاجي، “فإن الأدوار انقلبت وما كان هامشا – المرأة اصبح متنا ونزل المتن إلى الهامش، ثم يستشهد الكاتب بمقولة الدكتورة نوال السعدني التي ترتكز على الرد العاطفي أكثر من العقلاني تقول: “أن الأنثى هي الأصل في الحياة والذكر فرع لها، وهي اسمى منه ودورها أكثر اصالة وأهمية.” و يجزم الكاتب، “بأن كيان الرجل لا يتحقق إلا بغياب المرأة، عندما يصبح الرجل معطلا ومعطوبا أمام زوجته المتسلطة” (الخفاجي،2021). لكن السبب بسيط؛ قد يكون النفور في العلاقة بين المرأة والرجل من بين أسباب العنة المؤقتة عند الرجل.
أما وفية في الرواية المرسومة “أرواح من الرمال” لنادية الأبرو فإنها تستهزأ من زوجها الذي اشترى بندقية بسعر ثلاجة وهم في أمس الحاجة لهذه الأخيرة. يبدو أن أولوية الوضع الأمني تفرض نفسها. كما أنه في نظرها البسيط:” رجل أراد أن يثبت رجولته اشترى بندقية وتبنى قضية” (ص67). لكن تعقيب الخفاجي بأن الراوية تنتقص من فحولة الأب الذي أوقعهم في المشاكل مع النظام السياسي والذي كاد أن يؤدي ذلك إلى اعتقالهم وتعذيبهم ودفنهم أحياءً. لكن وفية، الزوجة، استطاعت أن تهرب مع ابنها وينتحلا هويات أخرى. أما الأب وجماعته فلقوا مصيرا مرعبا. وأتساءل ما الوجه الايجابي الذي عكسه الخطاب النّسوي- النسائي في هذه المقاربة والتي تقدم صورة المرأة المعادية للرجل. ويخلص الكاتب كل مرة، “أن كل شيء إيجابي لامرأة – الأم؛ ولادة وحياة وحب وتعليم ومقاومة، وكل ما هو سلبي للأب – الرجل.” بحسب الكاتب الذي يستشهد بمقولة عبد القادر بوعرفة، التي تقول أن الشخصية – الرجل، “تبنى المقولات الذكورية بصنميتها التي تفقد الذات رؤية العالم بعيون مختلفة”. فأي مقولات هاته التي تدين الزوج، الذي اصر على مبادئه لخدمة الصالح العام والتشكيك في النظام البائد، والتي أودت، في النهاية، بحياته.
ومن النقد السياسي، ننتقل إلى النقد السوسيوسيكولوجي. فالشخصية، ياسمين، في رواية ميسلون هادي الموسومة “زينب وماري وياسمين”، كانت تحس بالارتياح في بيت تَبارَك لأنه بيت البنات. يبدو أنهن يتمتعن بحرية أكثر من سامية مع أهلها. فهذا شعور طبيعي لفتاة تحس بأن قيودا تكبلها وهيمنة ذكورية تنغص حياتها ويكون استنتاجها أن “السعادة تعني بيتا خاليا من الرجال ( ص18).”
أما سومر في رواية بلقيس حميد حسن المعنونة “هروب الموناليزا” فإنها تهرب وبمشقة النفس من مخالب نظام دموي لتقع في شباك عشق رجل متزوج بغيرها، الأجنبية. فهي المتحررة التي قبلت أن تكون عشيقة وتعرف في قرارات نفسها أنه لن يتخلى عن زوجته الأولى. لكن حلمها بأن تمتلكه لنفسها جعلها تصب غضبها عليه وتتهمه بالخداع والضعف والجبن. وهي تقر أنها انسانة نرجسية تريد اشباع غرائزها. أما هو فيتعامل مع زوجته الهولندية بنفس مبادئها الأروربية. لكنه لم يستطيع استيعاب تحرّر سومر لخلفيته الثقافية المُمَثلة بها. فاستخلص الكاتب:
المرأة| الأنثى = القوة (الحب، الفن، الولادة، الوفاء)
الرجل| الذكر= (الضعف الخيانة، الخداع، الاستلاب) (الخفاجي، 2021) وحسب قراءتنا للنص؛
المرأة | الأنثى: ضعيفة = حب امتلاك العشيق
الرجل| الذكر: قوي = ترك العشيقة من أجل زوجته
نرى أن الروائيات العراقيات لطفية الدليمي، صبيحة شبر، دنى غالي، نادية الابرو، بتول الخضيري، عالية ممدوح، إنعام كده جي، هدية حسين وغيرهن كثيرات يحرصن، في نصوصهن، على إبراز تأثير الوضع السياسي والاجتماعي على سيكولوجية حياة الشخصيات، ذكرا أم أنثى. فما يقع على الرجل يصيب المرأة ايضا والعكس صحيح. فيُحسب لهن، ليس فقط، تسليط الضوء على ما حدث ومازالت نتائجه تُعكس على الواقع، وإنما تفكيك نقاط الخلل في العلاقة بين الرجل والمرأة ومدى تأثير الموروث الثقافي الديني والتقاليد والعادات بمفهومها العام على سلوكياتهم و تعاملهم مع الآخر وتجاوبهم مع الظرف السياسي والاجتماعي والثقافي.
ويبقى السؤال مطروح: هل السرد الروائي النسائي العراقي يختلق العجز الجنسي عند الرجل ويتعمد نفي هذا الأخير وتهميشه أم الوضع الاجتماعي والنفسي للرجل – الشخصية الذكورية هو الذي يفرض نفسه حسب السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي؟ نجد أن التطرق إلى هذه الثيمات تساهم في جعلها مطروحة للنقاش و تخلق بذلك مجالا لبلورة وعيٍّ نَسَويٍّ للمرأة كما للرجل.
من هو المثقف، يا ترى؟
فمن هو يا ترى المثقف في الرواية النسائية العراقية؟ وما دوره؟ وهل له حضور؟
نعرف أن المثقف هو الذي يمتلك ثقافة عامة وإمكانية أي ملكة تحليل متطورة، يستطيع من خلالها أن يشارك في نقاش علمي واجتماعي وثقافي. ويعتبر المثقفون أوصياء على الثقافة ومبدعيها. ومن المفروض ان يظلوا مستقلين ومنفصلين عن أي نخبة؛ لأن الموضوعية تتطلب ذلك. وهذا المصطلح وُلد إبان قضية “دريفوس”، من خلال الرسالة المفتوحة ” أنا، أتهم” الموجهة إلى رئيس جمهورية فرنسا فيليكس فور والتي نشرت في ” L’Aurore الفرنسية” يوم 13 كانون الثاني \ يناير 1898، وهي التي أسست لفكرة المثقف مرة واحدة وللأبد. ويجب بحسب فرانسوا دوس، الفيلسوف والمؤرخ في مجال التاريخ الفكري، على الهيرمينوطيقا أي التأويل أن تعتمد الهدف التوضيحي للمتطلبات العلمية وأن تدمج عالم القيَم الخاصّة بمعاصرة العالِم- المفكِّر. لذلك من المهم دائما المضي قدما في عملية الموضوعية والوصول إلى النقطة التي تظهر فيها دلالات عميقة وإنشاء ديالكتيك يوحد الحقيقة والطريقة.
لكن السؤال المطروح: هل تعتبر الشخصيات الذكورية في المتون السردية المتناولة للروائية العراقية مثقفة، حسب التعريف السابق ذكره؟ المفهوم المتعارف عليه منذ بداية ستينيات القرن الماضي، وهو أن يكون المثقف يساريا أو يساريا ملتزما. فبالنسبة لسارتر، لا يمكن أن يكون المثقف إلا من اليسار. بشرط أن يُفهم هذا المصطلح بمعنى رغبة أخلاقية في تحقيق العدالة، وليس بالمعنى السياسي والحزبي البحت. وكما نعلم أن المثقف العلماني، ليس بالضرورة ليبراليا كما ينعته الخفاجي، وهو بالأحرى ليبِتَرِيا أي تحرريا، يلمّ بثقافة واسعة لانفتاحه على العالم وايمانه بالمساواة بين الجنسين وقبول الآخر، ومستعد للتشكيك بالنظام القائم وخلق مجال لتوضيح وتقريب الخبراء من المواطنين، حسب قول فرانسوا دوس.
فما نلاحظه، أن شخصية أحمد في الرواية الموسومة “وأدتك قلبي” لصبيحة شبر وشخصية الأستاذ الجامعي فؤاد في رواية “جاء متأخرا” لعلياء الأنصاري، لا تنطبق عليهما صفة المثقف. فالأول، أحمد، يخطط في منولوج داخلي كيف سيتزوج سامية الغنية لكي يستغلها ماديا. ويعتبره الكاتب مثقفا لأنه لم يصارحها بحبه وفضل أن تحدثها أخته عن رغبته في الزواج منها. كما أن الحوار الذي يدور بين أخته “المثقفة” والأخ أحمد “المثقف” (حسب الخفاجي) حول تعدد الزوجات والتشبث بهذه الحقوق وإلزام الزوجة بطاعة زوجها وعدم معارضته وذلك لأنه حر في سلوكياته وما من محاسب، يبرز الهيمنة البطريركية التي تنتقدها الروائية علياء الانصاري. ويضيف الكاتب أن “هذا المقطع السردي يكشف الصراع الخفي بين الاستجابة العصرية لمفهوم المثقف بتراثه العلماني “الليبرالي” (ليس شرطا وهذا مفهوم سياسي اقتصادي) وبين المرجعيات الدينية العقائدية التي تعد رافدا من روافد الثقافة الشخصية (الخفاجي، 2021).” وهذا ما نجده عند الأستاذ الجامعي فؤاد الذي يمنع زوجته من زيارة أهل فتاة اغتصبت ثم قتلت من أجل غسل العار وبذلك ماتت مرتين. وهذا يؤكد أن التعليم العالي والشهادات العليا لا تُخوّل المرء المرور إلى طبقة المثقفين. وهذه الشخصيات تقع تحت ضغوط اجتماعية وثقافية دينية وتقاليد تخط حيواتهم نساء ورجالا. يحاولون التعامل مع العصر بحذر شديد.
ونخلص أن الروائيات العراقيات، في روايتهن النِسْوية، لا يتناولن فقط الوضعية الاجتماعية للمرأة العراقية بل يقدمن في أعمالهن نظرة شمولية على كل الأصعدة. فهن يعالجن كل الميادين، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى البيئية. ويُشهد لهن بثقافتهن ووعيهن الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي ينهلن منه لكي يقدمن لنا أعمالا ذات جمالية فنا وشكلا ومضمونا. ونبقى نؤمن بمقولة بول ريكور، بأن هناك عدة طرق لقراءة عمل أو مشروع أدبي.
– الروايات المتناولة:
– بلقيس حميد حسن، هروب الموناليزا، دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، 2014.
– دنى غالي، منازل الوحشة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2013.
– علياء الأنصاري، جاء متأخرا، دار الشؤون الثقافية، بغداد،2013.
– لطفية الدليمي، سيدات زحل، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2015.
– ميسلون هادي، زينب وماري وياسمين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012.
– نادية الابرو، أرواح من رمال، سطور للنشر والتوزيع، 2017.
– صبيحة شبر، وأدتك قلبي، دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع، 2017.
– صبيحة شبر، راحلون رغما عن أنوفهم، بيت الكتاب السومري، بغداد، 2018.
المراجع:
1-Nathalie Saudo-Welby, Le courage de déplaire , Classique Garnier, Paris, 2019.
2- روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ت. محمود الربيعي، دار غريب، 2000.
3- M. André Bourin, Roman féministe ou roman féminin? Cahiers de l’AIEF, 1999.
4- كاظم فاخر الخفاجي وسهام جواد كاظم، تقويض الذكورية في الرواية النّسوية العراقية، المجلة الدولية للعلوم الانسانية والاجتماعية، العدد 20، أبريل 2021، ص69 |78.
5- محمد برادة، أسئلة الرواية…أسئلة النقد، الدار البيضاء، منشورات الرابطة، 1996.

أحدث المقالات

أحدث المقالات