(باص أخضر يغادر حلب) ويصلُ الموصل
إلى النصير آشتي.. ذكرى 8/8/ 2009 مهرجان حركة الأنصار الشيوعيين
تنبيه
الكتابة والقراءة في زمن البلاء، ليست ترفا ولا هروبا، كما أنها ليست وصفة علاجية .. .. التعاضد المجتمعي أسهمُ فيه، من خلال الالتزام بالتعليمات، وتقديم المعونات ضمن فريق عمل في منطفة سكني.. فذلك أفضل من إدعاء النصائح والوصايا وتهويل الأمور وتناقل الأشاعات الموجعة، كما يفعل الذين حددوا إقامتهم في التواصل الاجتماعي… الصبر والسلون لذوي المفجوعين والشفاء العاجل للمصابين والعافية لعراقنا الشجاع الغيور..
مقداد مسعود
بيني وبين روايات جان دوست صداقة عميقة بسعة سبعة سنوات وأربعة أشهر، تعددت قراءاتي لفعله الروائي الدؤوب : ) عشيق المترجم) (نواقيس روما) (ميرنامة) (ثلاث خطوات إلى المشنقة)(دم على المئذنة) (مهاباد). وأنا أتصفح روايته (باص أخضر…) تساءل قلقي : بعد أشجاره الروائية الفارعة، هل يستطيع جان دوست التمييز من خلال رواية قصيرة، عنوانها يعلن: أنها رواية تعبوية؟ سؤالي : نتاج تكراري لقراءة رواياته، وما أكتبه عن روائعه مازال في طور مخطوطةٍ تشتغل كل رواية اشتغالا خاصا..
(*)
هل رواية (باص أخضر…) محاولة سردية من روائي له تجربة روائية فذة للأجابة عن السؤال المدوي كالناقوس في تفكرات الرّكاب الحلبيين المحبطين (لماذا حدث هذا كله؟/ 27) ثم ينتقل المؤلف جان دوست من العام إلى الخاص، مستعملاً (أبو ليلى) منصة إنطلاقا لأسئلة شتى :
*أهو عقاب رباني؟
*أهي لعنة أصابت المدينة التي ترددت كثيرا في الدخول إلى المعمعة؟
*كيف أستيقظ الغيلان؟
*ومن أيقظها لتدمر هذه المدن..؟ وتحصد الأبرياء دون تمييز بين مقاتل مسلّح ومدني حاصرته الخيارات الصعبة؟
*ماذا تريد هذه الدول كلها من بلادنا؟
*لماذا ليس بإمكانها أن توقف نزيف الدم؟
*كيف يمكن للعالم أن يتفرّج بصمت، وربما بمتعة على حفلات الموت هذه التي تزداد كل يوم؟
ثم ينضدّها بالسؤال الخلاصة والعودة للسؤال العام : عشرات الألوف من القتلى وملايين الهاربين من هجير الحرب، وعدد لا يُحصى من المعتقلين والمفقودين والمعوقين- ويختمها أبو ليلى بالسؤال الأول – ألا يكفي هذا كله؟ /90
وسؤالي كقارىء منتج: لماذا يكرر التاريخ نفسه هيغليا أعني حسب مقولة الفيلسوف هيغل (التاريخ يعيد نفسه)، فما يجري في حلب هو طبعة منقحة ومزيدة مما جرى لها سابقا وجاء على ذكره إبن الأثير في كتابه (البداية والنهاية) : (عن مأساة حلب في ظل المغول،، وبقيت حلب كالحمار الأجرب،، / 92
(*)
تنطلق رواية (باص أخضر…) من ص9 بلقطةٍ تؤكد ثريا النص (باص ٌ أخضر كان يقف مع غيره من الباصات الخضراء مثل درب معشب نحيل يمتد بين أطلال بدت لانهائية…/ 9) ومابين القوسين : هو السطر الأول من الصفحة الأولى في الرواية
(*)
الأخضر هنا ليس لونا ضمن المتعارف عليه تداوليا، هنا الأخضر خارج سياقه الثابت، متخذا جهويةً خاصةً تتفكك لدى القارىء من داخل النص (حافلة من حافلات النظام، يعني باص أخضر صاروا يعيرونا فيه ../36).. الأخضر مفروض من سلطة النظام..(لم يبق أمام المقاتلين المتبقّين في الأحياء الأخرى من خيار سوى الصعود إلى الحافلات الخضراء التي صارت رمزا لأنتصار قوّات الحكومة ../99) وهكذا وبأختصار(،،بيعت حلب،،كما صار يحلو للبعض أن يسمّي أتفاق الروس مع الترك، حيث أتيح بموجبه خروج العسكريين والمدنيين بأمان من معاقلهم وبيوتهم في أحياء حلب الشرقية../26) السرد هنا يستعمل التنبيه التكراري بخصوص اللحظة التي انتخبها المؤلف مهيمنة لروايته : مغادرة حلب الشرقية بطريقة حكومية !! التقط ُ حواراً بين حلبيين : مواطن / مقاتل :
(دار حديث متشنج بين راكبين على مقعدين متباعدين،أحدهما يحمل بندقية خفيفة، تراشقا بالكلام بنبرة منخفضة ثم سرعان ما رفعا النبرة، بقصد أن يسمعها كل من في الحافلة :
متى سيمشي الباص؟
وليش مستعجل على الخروج؟ خيفان لتموت؟
أنا ما بخاف إلا من ربّ العالمين. لا تكبّر الكلام معي
أنا ما كبّرت الكلام،إنت اللي بدّك تطلع بسرعة. بعد ما دمرّتوها،بعد ما ساويتوها خرابة، بدكوا تطلعوا؟ بكّير كتير..لسّا في كم حارة ما تدمرت. ليش العجلة؟
نحن دمّرناها؟ أنت تحكي بلسان النظام. قل لي مين حضرتك؟ وشو شغلك؟ وشو موقعك من الإعراب؟
أوّلا ً لا تنس َ أنك تستقل حافلة من حافلات النظام. يعني باص أخضر صاروا يعيرونا فيه. ع الباصات ياعرصات. سمعت شي مرّة هالجملة/ 35-36).. أولا في هذه الحوارية تتكشف خيبة المواطن ممن ادعوا تخليصه من ظلم النظام، ثانيا تتكشف أبعاد أخرى لثريا النص/ الدلالة اللونية الحاكمة، فالباصات الخضر تشفط المواطنيين والمسلحين من حلب الشرقية، لقد فشلت المعارضة المسلحة،والمواطن المتحاور يفصح عن كل ماجرى لحلب حين يقول (أنا إنسان عادي. مواطن راح بيتي ومات أهلي والآن أنا في طريق إلى المجهول. شو استفدنا من هاي الحرب؟ أنا بعمري ما كنت مع النظام. ولا كنت مع دخولكم إلى حارتنا. لتجعلوها متاريس لكم. أنت ومن معك، لا حميتوها ولا أنتصرتو. وهاي عم تطلعوا تاركين البلد ماضل فيها حجر على حجر..) كلاهما النظام والمعارضة قاما بتدمير روح المواطنة هذا التردي جعل المواطن يجهر (ما عاد يهمني إن خرجت بروحي أو بقيت فيها أو حتى أنقتلت بيدك أو بيد عنصر من النظام..) وهكذا تميزت حلب الشرقية بحصتين من شراسة الموت :
*الطيار السوري وطيارو الفيتو
*القصف العشوائي للميلشيات
(مات أطفال كثيرون، ماتوا بالهواء الذي سممته طائرات يقودوها طيارون من بلادهم … وطيارون من بلاد الفيتو، ماتوا بقصف الفصائل المسلحة العشوائي لمناطق، سمّوها مناطق النظام، كانت صواريخ عمياء، ماتوا ذبحا بسكاكين الحقد الطائفي وحراب ميلشيات مستوردة للدفاع عن أمن البلاد وعزتّها،ماتوا بصواريخ العم أوباما الذي اتّخذ رسم الخطوط الحمراء على خارطة الوجع السوري هواية له / 38)
(*)
من ص9 إلى منتصف ص 100 تراه قراءتي عتبة نصية للصفحة الأولى من بداية زمن رحيل الشخصية المحورية في الرواية، أعني (أبو ليلى) الذي كان من الصامدين في حلب البيت والعائلة والذاكرة، لكن حين شفطت القاصفات والهاونات والقذافات : أهالي حلب ومبانيها وبيوتها، وتضاءل أبو ليلى : لا أهل ولا سكن، اقتنع بكلام أحدهم وقرر التخلي / الأنسحاب/ الفرار/ جرى ذلك في الشهر الأخير من 2016 كان الحرب السورية قد بلغت الخامسة وسبعة أشهر دموية أنجبت الحرب جثثا وخرابا وأنقاضا وأمراء حروب وسلابين نهابين وكذلك (أستأسد بعض عناصر الحواجز من مسلّحي بعض الفصائل المقاتلة في حلب على المدنيين، بدأوا يأخذون منهم الإتاوات، ويفرضون عليهم ما تأباه فطرتهم البسيطة ../37) لذا حين عرف أهالي حلب الشرقية : (تنفس المدنيون ملء رئاتهم حين رعت روسيا وتركيا أتفاقا، يخرج بموجبه مقاتلو المعارضة وعائلاتهم من حلب مقابل خروج مدنّيين ومقاتلين إلى جانب الحكومة من بلدتي كفرّيا والفوعة../10) وهكذا يخبرنا السارد وسيعاود.. هذه الإحالة التكرارية التي هي موضوعة الرواية، لتذكرينا نحن القراء، : (،،بيعت حلب،، كما صار يحلو للبعض أن يسمي أتفاق الروس مع الترك، حيث أتيح بموجبه خروج العسكريين والمدنيين بأمان من معاقلهم وبيوتهم في أحياء حلب الشرقية../26)..ثم تعاود الإحالة تكرارها:الحلبيون (أجبروا على ترك مدينتهم،بموجب أتفّاق بين اللاعبين الكبار في ساحة المعارك الأخيرة في حلب .لم يكن أمام المقاتلين الشرسين سوى الإذعان لرغبات الحلفاء المشرفين على صفقات بيع المدن والأحياء والفصائل والثورات والثوار، وحتى الضمائر كسلعة قابلة للمساومة ../ 107) ..وهكذا انتهت لعبة الحية والدرج :لا ضماد لنزيف حلب : أرتطمت بجدار كونكريتي : صيحات الناشطين وأستغاثات المسعفين،فشلت نداءات الأطباء عبر الفضائيات، وفازت حلب بالمرتبة الأولى!! فقد (أشتد القصف خلال الصيف، ثم أزداد ضراوة حتى باتت حلب الخبر الأوّل لدى وكالات الأنباء العالمية.راقب العالم خراب المدينة بصمت ../98) هكذا تنتج الحروب سردياتها الشمولية كالأنظمة العربية وهي سرديات فاتكة تمحق المكين والمكان بكل كينونتها المتنوعة ..
(*)
الزمن الواحد يختلف نكاية بالتماثل: زمن الروزنامة والهواتف النقالة وساعات اليد تعلن العاشرة صباحا منتصف كانون الأول 2016، لكن هناك أزمنة لها مواقيتها الواخزة/ النازفة على بقايا جدران بيوت تطايرات نحو اللامكان (ساعات اليد في معاصم القتلى تحت الانقاض،تشير إلى لحظات الدمار الرهيبة التي طالت أحياء كثيرة في حلب وغيرها من المدن المفجوعة ../10) ..في الحرب سقف الأمنيات يكون خفيضا، وفي الغالب ينهار هذا السقف، على رؤوس ٍ أكتفت بالقليل من الحياة والأمل والخبز، الكل تسللوا من خرائب كانت بيوتا، بعد أن صارت الطائرات المغيرة سماءَ الأمكنة. الحلبيون أمنياتهم أختزلوها بواحدة: الحصول على جحيم لا يشبه جحيم حلب التي نافست سقرا ، الحصول على شارع بلا شظايا ومداهمات من قبل الفوهات المتصارعة فيما بينها .في الحرب يكتهل الأطفال ويمتلكون جسارة القدمين ها هم (يركضون خلف أهاليهم، يسقطون على الأرض، ثم يقفون على أقدامهم الباردة، ويستأنفون الركض، وهم يشدّون بأيديهم المرتجفة بردا ورعبا على ما يحملونه دون أن يبكون أو يطلبون العون من آبائهم الذين يتقدمونهم، ولا يلتفتون../13).. على الأطفال أن يصحوا من طفولتهم، حتى لا تنفزع صباحاتهم بالدوي المعدني العجول ، الحرب تشطر الأطفال نصفين مثل حفيدة (أبو ليلى (ميسون التي شطرتها إلى نصفين شظية برميل متفجّر،ألقته مروحية أمام باب البناية في حيّ مساكن هنانو../14).. في الحرب كل الأشياء هي الواحد الأحد : هدف أستراتيجي : مخيمات اللاجئين، المستشفيات، سيارات الإسعاف، رياض الأطفال، الحرب تتعامل بسواسية، الكل مثل أسنان المشط، في الحرب لا ترى الحربُ مشطا أدردا، لا فرق بين(نائم على سريره داخل بيته، ومقاتل يحمل السلاح خلف المتاريس ) وفي الحرب : المتقاتلون: الجيش الحر،أحفاد المرسلين،غرباء الشام،لواء شهداء بدر وغير ذلك من الفصائل كانوا يحتكرون الحياة والغذاء والدواء، أمراء الحروب يكلفهم مواليهم (بتفكيك مئات المعامل، وبيعها إلى تركيا../125) وهذه العملية هي تدوير لسرد الحرب نفسها بطريقة ما بعد الحداثة – إذا صح التعبير –
(*)
في الأسطر الثلاثة المسبوقة بثلاث نجمات : *** من ص17، السارد المطلق يعلق سرده الحربي، وتتراجع الكاميرا، لسنوات خلت من حياة (أبو ليلى) وسيقدمه لنا السارد المطلق بالطريقة التالية : (لم يكن عبود أبن عشيرة العجيل من قرية باسوطة جنوبي مدينة عفرين في الشمال الغربي من سوريا../17) وهكذا يحصل القارىء على وجيز سيفي عن عبود العجيل، فنعرف مهرباً للبضائع بين تركيا وسوريا، وسنتعرف من خلال عبود على التاجر المتجول الكردي عبد الحنّان الذي سيتزوج عبود أبنته نازلي وتنجب له عبد الناصر وعمر وعاصم وعلي وتتحقق أمنية نازلي وتنجب بنتا وجاءت (ليلى، أم ميسون، آخر العنقود والبنت الوحيدة.. ثم يعود السارد المطلق في ص24 ليوم عيد ميلاد ميسون حفيدته وفي منتصف ص25 يعيدنا السارد ويحشرنا في الباص الأخضر من جديد، في الفصل الثالث نكون في منأى عن لحظتيّ الباص الأخضر وتشظيات الحرب، نكون في سنة 2005 نصغي إلى فرهاد وليلى في مقصف الكلية الطبية، وهي سنة انفتاح الحكومة على المعارضة وبالتالي تصفيتها، بشهادة السارد.
(*)
خرزات السرد ملظومة بروزنامة :
*15/ 12/ 2016/ص10 / ص91——— الإنسحاب من حلب الشرقية
*1939 تركيا تستولي على لواء الأسكندرون/ص20
*نيسان عام ألفين وخمسة / ص41 —————- مقتل رفيق الحريري وإنفتاح الرئيس بشّار الأسد على معارضة الداخل لضربها بعد انكشافها
*نهاية 2007 زواج فرهاد من ليلي عبود العجيل
*2011 ولدت ميسون ابنتهما، قبل أن ينتفض الشعب السوري
*صيف 2011 خرجت مدينة منبج من تحت سقف قصر المهاجرين مثل كثير من المدن والبلدات السورية واستلم زمام الأمور فيها فصائل من الجيش الحر/ ص46
*تمدد داعش في أحياء حلب أواخر عام 2013
*الشهر الأول من 2014 داعش صارت في منبج
*أواخر عام 2015 يقوم أبو ليلى وخالتا ليلى في رحلة إلى مدينة منبج لأنتشال ليلى من جحيم داعش/ 60
(*)
العمارة السردية في(باص أخضر…) لها حركة الفرجال : القدم المغروسة من الفرجال هي لحظة الباص الأخضر، ومع كل نقلة رجوعية للسرد تنتقل الساق المغروسة إلى حيز آخر.. وهناك لعبة الواقع والميتا واقع، فالشخصية المحورية
أبو ليلى يحمل الرقم خمسين، في الباص وهو المقعد الأول الذي كان فارغا وينتظره، وهو كان آخر مَن يستقل الباص، وحين يتوقف الباص في المعبر ليخضع للتفتيش، ويصعد جندي نظامي، كان أبو ليلى هو (أول من صادفه من الرّكاب رجلا يرتدي معطفا فوق دشداشته وفي حضنه فستان عرس أبيض،تناثرت فوقه صور عديدة، طلب الجندي منه إبراز بطاقته الشخصية، لم يرّد، ومع تكرار الطلب وحين يهزه الجندي يتفاجىء (كان جثّة بلا روح/10) هنا نكون أما سرد سينمي، بعدها تتراجع الكاميرا إلى ما قبل موت (أبو ليلى..).. في الفصل السابع وهو الفصل الأخير وضمن قراءتي هو الفصل الأول لما بعد النص ومازال هذا الفصل بدوام كامل في العراق وسوريا.. مازال للأسف . في الفصل السابع يتخذ الباص جهوية ً جديدة ً/ خاصة (أختفى الباص الأخضر من الشارع الذي ترادفت فيه القافلة الخضراء صباحا../103) في هذا الفصل تتشظى الكتلة السردية ويكون لبدلة زفاف نازلي سردية ً ولكل صورة من صورة أولاد عبود سردية خاصة ولفرهاد وزوجته ليلى وابنتهما ميسون خصوصيات في السرد، هذه السرديات بمرتبة كشوفات المصائر الحقيقية للضحايا .خارج الباص ثبوتية (السواد الثقيل../123) وحين أرتطم الباص (أن أحدا من أفراد عائلته الجالسين في الوراء،لم يصرخ، و(أبو ليلى ) يشعر بقدميه غائصتين في وحل كثيف، وبركبتيه مشلولتين، لماذا لايمكنني الوصول إليهم، كيف يأتون إلي، ولا أقدر أنا على ذلك؟أراد أن يرفع صوته بالنداء أن يصرخ ويطلب حضورهم دفعة واحدة، لكنه أحس بشفتيه قطعتي فحم../124).. لحظتها كان الطبيب فرهاد، يراقب المشهد وهو في الباص، ثم جلس جانب عمه(أبو ليلى) وأخبره أنه كان مرغما وهو في حلب أن يداوي جرحى الدواعش، وبالسر كان يداوي غيرهم، ثم أخذوه معهم إلى الرقة ومنها إلى كوباني، ورأى وحشية تعاملهم مع الكل،ثم يخبر عمه (أبو ليلى) :(في الموصل، رأيتُ فظائع أكبر مما رأيتها في كوباني../135)(أمتلأت ثلاجات المستشفى بجثث الجنود العراقيين والمدنيين مسيحيين وأيزيديين وشيعة وصحوات، كان علي أن أوقّع شهادات وفاة لمن يقتلوهم عناصر التنظيم داخل المستشفى ويرميهم بعد في مقبرة الخفسة../135)
كما أمروه بتلفيق اغشية بكارة للأيزيديات المسبيات الصغيرات، المغتصبات، ليعرضوهن للبيع بأثمان كبيرة ثم يجيء أمين الصحة الداعشي ويأمر الطبيب فرهاد على إجهاض سبية من سنجار،كان قد اغتصبها البغدادي، وحين يرفض فرهاد ذلك ويحاججهم فقهيا، سيحكمون عليه،بالذبح على يدي أبو حفص الليبي، أبو ليلى وهو يستمع لصهره، رأى(نفور الدم من أوداج صهره الطبيب، لحظة نحروه، دام النشيج حوالي الدقيقة، بقي أبو ليلى غامضا عينيه يعتصر قلبه ألما../138)..
هنا يشتغل الروائي جان دوست على تعددية الرواة، كل راوٍ يوجز لنا مصيره، ومن خلال التشارك في التروية، يكتمل نصيب عائلة (أبو ليلى) من سرديات عنف الدولة.المنشغلة بنرجسيتها، هي التي استقطبت الوحش من الخارج..وأبو ليلى يشعر بنفسي بلا حول ولا قوة (كان هو مثبّتا إلى مقعده بمسامير لامرئية../132 ) فهو من الميتين، منذ صعوده في الباص، وهو الأخير الذي صار أولاً، يجلس في المقعد الأول ويحمل الرقم خمسين !! وإذا تلفت نحو أهله صار(لم يعد يراهم جيداً.حال بينه وبينهم ما يشبه ستارة من الدخان كغبش الصبح،فرك عينيه، وحدق بتركيز، زاد الغبش عما قبل. ولم يعد يرى أحدا../140) ماذا يرى أبو ليلى وكيف يرى وقد استحالت نوافذ الباص مرايا!! وماذا رأى في خدعة المرايا ودلالالته ؟
لقد ازداد رعبا(نافذة الباص تحولت إلى مرآة كبيرة، دقق في وجهه فلم يجد ملامحه. كان وجهه خاليا من الأنف والفم والعينين../ 140) ضاعت ملامح أبو ليلى في المرايا، والباص الأخضر الذي غادر حلب كان (يسير بلا سائق، يسير بجنون، يسقط في الهوية ../141) وحلت محلة كتلة سوداء من الخفافيش .. أما أبو ليلى
فقد (صار تمثالا من الشمع. بقيت نظراته الجامدة معلّقة إلى الأمام /141) هي نظرته التي اخبرنا بها السارد في الصفحة الثانية من الرواية (كانت عيناه جاحظتين، تحدقان إلى جهة السائق،فيما ارتسم على وجهه رعب لانهائي، وتناثرت على شفتيه أشلاء صرخة ذبيحة /10)..دائما يتفاجىء وعي الركّاب أن الباص أو القطار، يسير بسرعته القصوى، وبغياب السائق،في(باص أخضر…) وكذلك في (سائق القطار) أحدى قصصه نجيب محفوظ في مجموعته القصصية (خمارة القط الأسود) !!
—————————————————————————–*جان دوست/ باص أخضر يغادر حلب/ منشورات المتوسط / إيطاليا/ 2019