يعود التراث الثقافي والفني للعراق إلى حضارة ما بين النهرين القديمة، ومساهماتها العديدة في الأدب والهندسة المعمارية والفنون التي تشكل تاريخ البشرية بشكل عميق.
وفي القرن العشرين اصبح العراق مركزا حيويا للثقافة والفن، حيث كانت بغداد مركزًا للأدب والمسرح والفنون السمعية والبصرية. وكان لها صدى كبيرا في المحافل الثقافية والفنية العربية والعالمية .
وفي السبعينات من القرن الماضي انتشرت الثقافة العامة وازدهرت فعاليتها من خلال الكتب والصحف الثقافية والمجلات الادبية ودور النشر المختلفة ، التي ساهمت بفاعلية في تشكيل الثوابت الوطنية والقيم الانسانية والاجتماعية للمواطن العراقي .
كما كان لها الاثر الكبير في ولادة أجيال من الكتاب والمؤلفين المبدعين في شتى مجالات الحياة وبناء الصرح الثقافي .
وفي المسرح العراقي تم تقديم الكثير من المسرحيات التي لا زالت حاضرة في الذاكرة العراقية . وبرزت نخبة من الممثلين والمخرجين والكتاب المبدعين .
كما تطورت الموسيقى العراقية ، من خلال دعمها من الدولة وتوفير الوسائل اللازمة لانتشارها في الراديو والتلفزيون ، فازدهرت ازدهارا كبيرا .
ولكن النشاطات الثقافية والفنية عانت من الاهمال والتجاهل خلال العقدين الاخيرين ، وتوقفت الحياة الموسيقية بشكل كامل تقريباً. ليس فقط بسبب الفساد السياسي والاداري، ولكن بسبب الاهمال الحكومي المتعمد ، اضافة الى ان الحياة العامة أصبحت غير آمنة .
وامتد الاهمال الحكومي للثقافة العامة، ليشمل العمل المسرحي وعلى جميع الأصعدة . حيث انعدمت الاستثمارات وتضائلت النشاطات في المسارح والصروح الفنية الاخرى .
ان مانشهده من انحسار ثقافي وفني كبير بعد الاحتلال الامريكي للعراق يعود الى اسباب بنيوية تتعلق بشكل نظام الحكم ، فغالباً ما تتم الاشارة إلى دور الأحزاب الدينية الحاكمة وتأثيرها السلبي على مجمل النشاطات الثقافية والفنية .
مما عرض هذه الأحزاب التي تهيمن على السياسة العراقية لانتقادات لاذعة بسبب مواقفها المتزمتة، واللاابالية ، واحيانا المعادية للفنون والثقافة حتى اوصلت البلد الى هذا المستوى من الركود الثقافي والفني في البلاد .
ويتضح نهج الاحزاب الحاكمة المؤذي للثقافة العامة والفنون في العراق من الآتي :
اولا _ نفذت الأحزاب الإسلاموية قوانين رقابة صارمة تتماشى مع تفسيرها للمفاهيم الإسلامية . وقد أدى ذلك إلى فرض قيود على التعبير الفني بما في ذلك الأدب والمسرح والموسيقى والفنون البصرية . وغالبًا ما كان يواجه الفنانون عقبات كبيرة في الحصول على الموافقة على أعمالهم، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الإبداعي .
ثانيا _ يركز النظام التعليمي، المتأثر بالأحزاب الحاكمة، على الدراسات الدينية على حساب الفنون والعلوم الإنسانية . وهذا التحول أثر على توجهات جيل الشباب وتقديرهم للفنون، وقد حد ذلك من تنمية المواهب والأفكار الجديدة .
ثالثا _ جرى العمل على تضييق المساحات العامة للتعبير الفني. وتواجه الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والعروض المسرحية العديد من العقبات البيروقراطية والأيديولوجية، مما يقلل من فرص الفنانين في التعامل مع الجمهور.
رابعا _ هذه الممارسات شجعت على الهجرة الفكرية حيث غادر العديد من الفنانين والكتاب والمثقفين العراقيين، بحثًا عن بيئات يمكنهم من خلالها التعبير عن أنفسهم بحرية. وادت هجرة الأدمغة إلى تفاقم الركود، حيث تفقد البلاد أكثر عقولها موهبة وإبداعا.
خامسا _ تسبب الفساد المستشري في اجهزة الدولة في الحد من تمويل المشاريع الفنية والثقافية ، كما أجبرت الصعوبات الاقتصادية الكثيرين على إعطاء الأولوية للبقاء على قيد الحياة على المشاركة الثقافية.
سادسا _ تفشي السلاح خارج نطاق الدولة وكثرة الميليشيات الحزبية زادت من المخاوف الأمنية وجعلت من الصعب تنظيم وحضور الفعاليات الفنية والثقافية . وتؤدي التهديدات التي تفرضها الجماعات المتطرفة إلى خنق التعبير الفني، حيث تستهدف هذه الجماعات في كثير من الأحيان الرموز والتجمعات الثقافية .
سابعا _ التلكؤ في إعادة بناء المؤسسات الثقافية والفنية المتضررة ، مما أعاق الجهود الرامية إلى إنعاش القطاع الثقافي .
ثامنا _ تسببت الصراعات السياسية المستمرة وانعدام الاستقرار السياسي في تقويض التخطيط الثقافي على المدى المتوسط والطويل . وأدت التغييرات المتكررة في أولويات الحكومة والسياسة إلى تعطيل الاستمرارية اللازمة للتنمية الثقافية .
تاسعا _ سعت الاحزاب الدينية الى اعادة كتابة التراث الثقافي للعراق، وترويج رؤية ضيقة واقصائية لتراث البلاد . وقد ادى ذلك الى محو التقاليد الثقافية المتنوعة. وتهميش كثير من الاصوات الوطنية . الامر الذي تسبب في تقييد نطاق التعبير الفني في العراق .
وعلى الرغم من هذه التحديات هناك جهود داخل العراق لإعادة احياء الحياة الثقافية والفنية. وتعمل المنظمات غير الحكومية والمبادرات الخاصة إلى دعم الفنانين والمشاريع الثقافية. علاوة على ذلك، تتجلى مرونة الفنانين العراقيين في تصميمهم على إنشاء أعمالهم ومشاركتها، وغالبًا ما يترتب على ذلك خطر شخصي كبير .
ومازالت هناك جيوب من الابداع والمقاومة ، ويواصل الفنانون والناشطون الثقافيون مقاومة الرقابة والقمع . مستخدمين الفن كأداة للتغيير الاجتماعي والمقاومة السياسية ، ومع ذلك فان العقبات التي يواجهونها كبيرة . ولايزال مستقبل المشروع الثقافي والفني في العراق غير مؤكد .
ومن اجل مكافحة الركود الثقافي والفني في العراق، من الضروري ألعمل على كف يد الاحزاب الدينية الحاكمة ورفع قبضتها عن التعبير الابداعي ، مع تبنى رؤية اكثر شمولية وتنوعا للثقافة فضلا عن تقديم دعما اكبر للمؤسسات الثقافية والفنانين . حتى يمكن للعراق استعادة مكانته الصحيحة كمركز للإبداع والابتكار في المنطقة ، وتعزيز مستقبل فني نابض بالحياة.