23 ديسمبر، 2024 8:26 ص

قد يتساءل البعض عن أسباب الركود أو عدم الأعتراف بالآخر المختلف الذي يكتنف راهننا الثقافي ويتهدد مستقبلنا وقد يجتهد البعض الآخر في تفنيد أسباب الركود الثقافي أو عدم الأعتراف فيضع إصبعه على جزء صغير من الجرح ويُبقي القسم الأكبر في الظل أو في غياهب النسيان المتعمد في عراق الحرائق الذي تحركه منظومة الأثم الثقافي الموروث عبر ملاذات التطهير الروحية المصطنعة القابعة خارج كل المنظومات الحضارية والمعرفية والفكرية .
أي تغيير حياتي أو تطور فكري أو رُقيّ حضاري يمكن أن نتوقع من ثقافة راكدة أو ثقافة تحجب الآخر مثلما تحجب القول بحيث لا تتآلف قيمه التي يتحدث عنها ومقتضياته الاساسية التي يدعي ضروراتها وضراوتها المتقلبة مع العصر المتوتر بمنتهى الافراط وبقطبية مغلقة حد التطرف تتمثل بالاستباحة والإقصاء، من هنا تتوالد من رحم الأزمة اسئلة مختلفة قد لا ننتهي عند تخومها المضادة لشكل الخطاب الفردي الذي ينتهجه البعض: من يكتب عندنا في العراق؟ ولمن نكتب؟ ومن يقرأ؟ وكيف يقرأ؟ هل هناك تقاليد ثقافية في القراءة والنقد والكتابة والنشر والتواصل المعرفي المجرد؟ لقد كثر الكلام عن مسميات شتى من قبيل الضمير، الموقف، التخوين، التواطؤ، والأخلاق وغيرها الكثير، ومهما كثر الكلام يبقى أقل من أن يوفي هذا الحاجز النفسي ـ المعنوي حقه من الاتهام والمحاسبة التي قد تبتلع الحقيقة إلى الابد، فما يهمنا ليس التوقف ملياً إزاء هذه الاتهامات المتنوعة أو الكتابات الموتورة فحسب بل رصد دور الرقباء وأنصاف الرقباء، بعض الكّتاب وأشباههم أو المتواطئين معهم، رغم شعورهم بالذنب، والمحايدين الذي يجئ صمتهم توقيعاً مبرماً على الأثم والذين يخلقون هالاتهم المزيفة ويخلطون صدقية الأشياء، بمقالاتهم وتنظيراتهم، بطريقة مريبة مفضوحة حد الصراخ وهنا أيضاً لا ننسى النقد المرائي أو رقيب النوايا المقتنص للمناسبات التي لا تؤرخ للضحية بقدر ما توظف لأرشفة الخديعة التي تحاسب النص على ما ليس فيه بالضرورة التاريخية بل بالخلفيات المفترضة لصاحبها المفترض جدلاً، وهناك المطبل أيضاً الذي يرتكب، بدراية وغباء، الخطأ المميت ذاته فيصم اذنيه عن الضجيج والصراخ لمرتكبي الجريمة ـ الخديعة ويمضي بعيداً لتلويث يديه بكثير من المداد والدم، أما الابواق الأخرى فلاحاجة لنا للحديث عنهم، ذاك لأنهم ابواق فقط لا غير .
الضمير الجمعي غير موجود في راهننا الثقافي العراقي، هناك فقط الضمير الفردي الذي يكون حاضراً في كل الأوقات وفعالاّ وكثير الأمتدادات حد التجذر في البنى الروحية الفكرية التي تعرف كيف تحمي وجودها الإنساني وتعيد انتاج منطقها، قوانينها وأنظمتها المعرفية إلى ما لا نهاية، وحين يتشعب الضمير الفردي ولا يعود يشبه نموذج الضمير الجمعي الذي نقع عليه في الممارسة والتميز، خصوصاً على صعيد التعامل مع الأحداث الساخنة سياسياً وثقافياً، وتصبح حالات الركود الثقافي والضغط الأخلاقي أو الطغيان العقائدي المتجدد والتشويه شاملة لكل المفردات الحياتية المتعارف عليها بحيث يعتبر أي حلم فردي حقيقي صادق أو تغيير وتجاوز ضرب من ضروب العبث غير المقيد بزمان أو مكان وكأننا في تسونامي ثقافي بطبعة عراقية منقحة، وهذا الأمر ليس بجديد على تاريخ العراق القروسطي، ألم تكن السلطات الدينية في اوروبا خلال القرون الوسطى تحرم طبع وتوزيع الانجيل خوفاً من أن يفتح أعين الناس وينير بصائرهم، وما يحصل الآن في العراق أخطر من هذا الاسلوب ناهيك عن الموت وأسطرته التي أكسبت العقلية الثقافية العراقية آليات العبث العقائدي التي مهدت لابتلاع أجزاء كبيرة من التلقائية . لكن، ما سبق ذكره لا يطال الفرد الحاضر بثقله في الساحة السياسية أو الثقافية تحديداً والذي يكثر الكلام عنه لدرجة ننسى معها الآخر الغائب بصورة قصدية محتالة هذه المرة، فبؤسنا الثقافي الحقيقي وهذا الركود الغرائبي يعود بجزء كبير منه إلى حضور هذا الاحتيال والمرجع الذي تقاس به نهائية العقل أو الضمير الجمعي وتوحشه ودوره التخريبي الذي يمنحه الحصانة الزائفة ليسرح ويمرح دون حسيب ولا رقيب، يسمح لنفسه وأفكاره المتشظية بكل شئ وينقل ما يطيب له ولسواه بتشويه المراجع الفكرية الحقيقية التنويرية التي لا تستهويه أو يوارب في التعامل معها فنراه تارة يناور، وتارة أخرى يكتب بلا معرفة نقدية حقيقية بمعنى آخر، أنه يرتجل الحماقات ويمارس الهلوسة ولا يخاف من المساءلة .