18 ديسمبر، 2024 5:42 م

الرقيب والعصفور والزرزور

الرقيب والعصفور والزرزور

من القواعد التي تستند عليها مؤسسات الدول -كل الدول- وتعدها ركيزة أساسية في إدارة شؤونها هي دائرة او هيئة (الرقابة).. والرقابة هي حق مشروع للجميع مادامت تصب في مصلحة الجميع، كما أنها -الرقابة- ليست ضمانا للشخص او الجهة القائمة بالمراقبة فقط، بل هي ضمان للشخص -او الجهة- الواقعة تحت المراقبة أيضا، لاسيما و”كلنا خطاؤون”. إذ هي تضعنا تحت مجهر التصويب والتصحيح والتقويم، مخافة أن نزلّ او نخلّ في عملنا، وبذا فهي تدرأ عنا نتائج الخطأ، وتقينا مآلات الخطل فيما نعمل، كما أنها تبعد عنا شبح الحساب والعقاب من قبل الإنسان في الدنيا، ومن بارئنا في نهاية المطاف. وهذا المبدأ يصح حتى في العلاقات الفردية وعلى أدنى المستويات والأعمال. فوجود الرقيب إذن، إيجابي في الأحوال جميعها.
لذا فإن في كل وزارة او هيئة او مؤسسة هناك كادر متخصص للرقابة، وكلما كانت المؤسسة أكثر أهمية او أشد حساسية في البلد كان دور الرقابة أوسع، وأكثر دقة. وأحيانا يكون عمل الرقابة علنيا بخطط وخطوات مكشوفة للجميع، ولاضير من ذلك مادامت كل الجهات متفقة على ضرورة وجوده. وفي أحيان أخرى يكون عمل الرقابة سريا، من دون علم الجهة المراقَبة، وهذا مانراه في أجهزة الاستخبارات والأمن والتحريات، وما الى ذلك من المؤسسات التي يوجد فيها طرف ليس من مصلحته وجود رقيب على عمله، وقطعا هذا ينم على عدم مشروعية هذا العمل، او كونه في تضاد مع جهة او جهات أخرى يصيبها ضرر من جراء القيام به. وهناك حالات أخرى يكون فيها عمل الرقيب سريا جدا.. جدا، كتلك التي تجري في دهاليز السياسيين والتي تكشف لهم المبطن ليس من الأعمال فقط، بل من النيات والأفكار التي تدور في خلد العدو والصديق، والقريب والبعيد، السليمة منها وغير السليمة، والتي لم تظهر على أرض الواقع بعد.
اليوم نمر نحن العراقيين بظرف حساس جدا، وماحساسيته هذه إلا لكون عنصر الوقت فيه لايتحمل تأخيرا أو تسويفا او مماطلة، فالثمن المدفوع من جراء أي من هذه الثلاثة سيكون غاليا جدا، ويقوم بدفعه أناس لاذنب لهم في كل مايحصل. والظرف هذا يشترك في العيش تحت وطأته كل العراقيين، بدءًا من أصغر فرد في المجتمع، صعودا الى أكبر رأس على قمة هرمه. فالبلد اليوم ماعاد يحتمل أي تراجع في خطواته، او أي تدهور في أوضاعه، بل آن له أوان الجري بأٌقصى سرعة لمواكبة أمم العالم فيما وصلت اليه، وتدارك التأخير الذي طال مفاصله وأركانه ومرافئه على الأصعدة كافة.
ومادام الحديث يدور داخل إطار الرقيب، فلعلي لا أظلم أحدا في قولي أن الرقيب في العراق ماعاد عمله يجدي ويأتي بالناتج المفيد، فالرقيب في مفاصل الدولة والمراقَب فيها، يعاني كلاهما من متلازمة عدم المصداقية، إذ الرقيب لم يعد يكشف المخبوء من الأخطاء، بل على العكس، بات يغطي ويتستر عليها، كذلك أضحى يتواطأ من المتسببن بإحداثها بلملمة نتائجها على نحو المكر والخديعة، وقطعا لا يكون عمله هذا (في سبيل الله والوطن). بل هناك ثمن محدد وبتسعيرة تندرج تحت قائمة السحت، لايمكن تجاوزها أو ركوب أمواجها، فنهجها ثابت ثبات حكم التحاصص وسياسة التحزب، إذا علمنا أن “كل حزب بما لديهم فرحون”. وبذا فإن العلاقة بين الرقيب والمراقَب في ظل سياسيي الدهاليز المظلمة، هي ذات العلاقة بين العصفور والزرزور.. “واثنينهم طياره”.