الرصيف ، إنه هامش الحياة الضيق الذي يحمينا من عجلات السيارات الرعناء المسرعة ، إنه عريقٌ عراقة إختراع العجلة قبل آلاف السنين ، حتى الوصول إلى السيارة وتطورها ، فظهرت تلك المساحة الموازية للشارع التي لا بديل عنها وقد أوجدتها الممارسة والتراكمات العملية ومقتضيات السلامة ، منطقة آمنة تصون حق كل من يمشي على قدمين في التجوال لواجهته بحُرية ، إنه أمر مسلّم به في كل أنحاء المعمورة ، أنه عالم من الحرية من جهة ، أزاء السرعة والجنون من جهة أخرى ، يجعلك تشعر بمأمن من آلات على عجلات لا عقل لها ، حتى إرتقى ذلك الرصيف إلى درجة القدسية والحرمة ، إلى درجة أن نكن له الكثير من المشاعر المجازية ، فيمكنك إستقراء أي بلد ، لا من خلال دعاياته السياحية ، لكن من خلال رصيفه ، بزحامه ، بألوانه ، بضجيجه ، بإحتجاجاته ، بهمومه ، بطموحه ، بفنه وإبداعه ، بثقافته وتقاليده ، بنظافته وأناقته ، بإتساعه بل بسطوته ، فهو مرآة لوعي الناس ولسان حالهم ، إنه منبر للكلمة الحرة ، وفي البلدان المحترمة ، وحتى غير المحترمة منها ، لا رأي يعلو فوق رأي الرصيف .
لكنه السقوط بكل ما في هذه الكلمة من بذاءة وتقهقر أخلاقي وإجتماعي وسياسي ، وإنحدار عن القيم والثوابت ، وغيرها من الآفات التي المّت بوادي الرافدين ، جعلت من شعب الحضارات ، ينحدر نكوصا للبدائية والبربرية وأخلاق الغاب ، بلد إنقرضت فيه الحرمات وخلا من الخطوط الحمراء ، بلا مراعاة لأبسط مقومات وحقوق البشر ، فكان نصيب ذلك الرصيف من الأنتهاكات والعبث والعشوائية والإستخفاف الشيء الكثير ، شأنه شأن كل زوايا الحياة الأخرى ، فتآكل هذا الرصيف الذي كان يختزل هويتنا إلى درجة الإنقراض ، وأنقرض معه ما تبقى من حيز الحرية والآمال والسلامة .
مذنبٌ من يتجاوز على الرصيف ويحرم المشاة لأجل واجهة لمحل ، أو من يحتلّه لأنشاء سقيفة دائمية لموكب لأجل شعائر لا تدوم إلا لأيام في العام ، وهؤلاء تجاوزوا على أحد أهم وصايا الرسول الأكرم عليه ةعلى آله أفضل الصلاة والسلام (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) ، أو من يرمي عقب سيكارة أو قنينة مياه من نافذة سيارته إلى حيث الرصيف ، مذنبة تلك التي تنقل نفايات منزلها إلى رصيف الشارع ، ليتحول بعد ذلك إلى (جوبة) للغنم ، أتجوّل في أحيائنا السكنية باحثا عن رصيف ، فلا أجده ، لقد إنقرض وأنقرضت معه الأخلاق ، كيف لا وهو مرآة لها ؟.
مستخفٌ بالناس ، ذلك الذي يترك أنقاض منزله ومواد بناءه على الرصيف لأشهر وسنين ، أو من يقدم بوابة منزله ملتهما بها الرصيف لأجل سياراته ، بل وصل الأستهتار بالبعض ، أن يضم كامل الرصيف إلى منزله ، ليضع سُلّما لطابقه الثاني يبدأ من إسفلت الشارع ! .
مجرمٌ ذلك المسؤول الذي إلتهم الرصيف بالصبات الإسمنتية القبيحة ، بدعوى أمنية متخلفة ، ليترك المشاة وهم يحتكون بها مذعورين مضطربين مسرعين تحت رحمة السيارات وهم يرمقونها بطرف خفي ملؤه القلق وكأنهم ينتظرون حتوفهم في منطقة قتل ! ، مجرمٌ ذلك المسؤول أو من إمّعات السلطة ، وهو يحتل حديقة عامة ليضمها لحديقة قصره الفارِه ، ألا يعلم أن حتى الصلاة فيها غير مقبولة لأنها أرض مغصوبة ؟ وهذه قاعدة فقهية أساسية ، مجرمة تلك الجهة الحكومية التي تستغل الفقر ، لتؤجّر (الچنابر) للمعوزين ، بغض النظر عن موقعها ، إنه شرعنة قانونية لإغتيال الرصيف !.
هكذا فقد المشاة كل سبلهم وهم وسط هذا الركام من التجاوزات ، فقد أغتُصب الطريق من تحت أقدامهم ، وصار من النادر أن يخلو رصيف من عائق ما ، فيضطر المشاة أن يطأوا بأقدامهم إسفلت الشارع ، فيكون تحت رحمة السيارات المسرعة التي لا ينقصها الإستهتار أيضا ، فالأرصفة وضعتها لوائح العالم المتحضر الذي نسيناه ! ، وإلا ما كان هنالك شيء أسمه رصيف .
أثبتت السنون العجاف من الديكتاتورية والظلم السياسي والتعسف الأمني ، والتي تغلغلت عميقا في تربية الفرد العراقي وسايكولوجيته ، أننا لا ننصاع ذاتيا بدافع انساني ذاتي أو أخلاقي للقوانين والمبادئ الأنسانية الفطرية ، إنما لمنطق القوة والأساليب العنيفة الرادعة ، وهذا لا ينطبق على شعب مولع بالحرية ، فتلك ببساطة أخلاق العبيد ، فيومٌ بعد يوم نثبت بُعدنا عن الأنسانية والتحضر ، وتحولت مجتمعاتنا إلى غابات يحكمها القوي والبلطجي والشرير والسياسي الفاسد ! ، ووضعنا أنفسنا داخل دائرة جهنمية ضيقة ، فواحدنا صار يحتاج للحماية من غابات الذئآب تلك التي وصلت لأسوار منازلنا ، هكذا وقعنا في فخ مافيات العشائر والقبائل التي تجردت من أعرافها الرصينة الحقة فلم تعد تتمسك بالحوار العقلاني ، عشائر من طراز جديد تدفع لها الأتاوة السنوية كالمافيات الأيطالية ، فلم يعد للشيخ الحكيم والحقاني وصاحب (الحظ والبخت) كما قالوا ، يفيد في محاورة شيوخ زمن السقوط ، إلا إذا فتشت عن شيخ تخرّج في نفس فترة السقوط تلك ! ، وإذا كانت الحكومة فاسدة ولا تعبأ بمواطنيها وأبخستهم حقهم ، ومنهجها الأستخفاف برعيتها ، فإنها ليست سوى مرآة لعاداتنا وتوجهاتنا وأساليب تعاملنا ، إنها الواقع العملي لِما يدور في أذهاننا وتصرفاتنا ، وما أعظم وأبلغ ما قاله الفيلسوف العملاق ، الإمام علي (ع) ، بعبارة مختصرة مليئة بالعلل والتأويلات : (كيفما تكونوا ، يولّى عليكم) ، فلو كنا أحرارا من نمط مدرسة هذا الرجل العظيم ، والتي أرادها لنا واستشهد من أجلها ، ما أسأنا الأدب حتى بغياب العقاب ، لكننا جميعا أمِنا العقاب ، فأسأنا الأدب ، أليست تلك عبودية !؟ .