لم يعد من السهل على أي منظر في عراقنا الجديد اليوم إبداء رأيه بما يدور في الساحة السياسية، لاسيما إذا طلب منه رأيان في غضون أربع وعشرين ساعة، او حتى أقل من هذا. إذ نرى ان المسؤولين والساسة متقلبون في آرائهم ومبادئهم وأفكارهم، ومن المؤكد ان نياتهم هي الأخرى تتبدل بين غمضة عين وانتباهتها. ومن المؤكد أيضا أن وراء كل هذه الهوائية والسطحية في الثبات، تكمن أسرار تأخر البلد وضياع فرصه في الوثوب مع من وثب من بلدان المشرق والمغرب، في أفلاك التقدم العلمي والتكنولوجي والعمراني والثقافي، وما يتبع هذا الوثوب من استقرار البلاد ورفاهية العباد. وكان من الأولى بنا أن نكون أول المتقدمين والمتميزين بين الأمم، لما لنا من حضارة يمتد عمقها الزمني بضعة ألوف من السنين، ولما نمتلك تحت أرضنا وفوقها من خيرات وثروات كانت ومازالت منهلا وفيرا ومعينا لاينضب.
وبعودة الى منظرنا أظنه سيعاني الأمرين لو أراد استقراء أحداث العراق على مدى اسبوع واحد فقط. فأول ما يصطدم به الخلافات السحيقة بين أعضاء مجالسنا التي يعول عليها الشعب العراقي في إدارة شؤون البلد، وفي صدارة هذه المجالس قطعا مجلس النواب، مع أنه أقرب مجلس الى مصلحة المواطن والبلد. ودليلي على كلامي هذا مطروح وموجود في كل ركن من أركان البلاد، ففي الشارع هناك التدني الشديد في الخدمات والبنى التحتية والفوقية وتحت التحتية وفوق الفوقية، وفي مؤسسات البلد هناك الفسادات (أشكال وارناگ) وبأحدث الأساليب وعلى أعلى وأدنى المستويات، من دونما استثناء. والعجيب الغريب أن الأمر واضح لكل فئات الشعب ولأصغر مواطن، أي أن هذا يعني ويدل على علم من يتربعون على كراسي التحكم والحكم، بما يدور في دهاليز دوائر الدولة ومؤسساتها، التي هم في هرم قيادتها قمة ورأس. وحتما تصلهم أولا بأول معلومات عما يجري فيها، وعن كيفية سير العمل وكيفية تعامل سلسلة الموظفين المنتسبين اليها، من (بوّاب) المؤسسة الحكومية صعودا الى موظف الاستعلامات مرورا بالواردة ثم السجلات ثم شباك رقم (1) فالشباك رقم (2) فرقم (10) وتطول قائمة أرقام الشبابيك ان أردت حصرها في مقالي.
يذكرني هذا بقصيدة لمعروف الرصافي أنشد فيها:
أنا بالحكومة والسياسة أعرف
أألام في تـفنـيـدهـا وأعـنـف
علـم ودسـتور ومجلـس أمـة
كل عن المعنى الصحيح محرف
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها
أمـا معانيهـا فليسـت تعـرف
من يأت مجلسـنا يصدق أنـه
لمـراد غيـر النـاخبيـن مؤلـف
أفهكذا تبقى الحكومة عندنـا
كلِمـا تمـوه للـورى وزخرف
كثرت دوائرهـا وقل فعالـهـا
كالطبل يكبر وهو خال أجوف
تشـكو البلاد سياسـة مالية
تجتـاح أمـوال البـلاد وتتلـف
او كما قال الشاعر خلدون جاويد:
انا بالحكومة والسياسة جاهلُ
عمـا يـدور مـن المكـائد غافل
لكنني هيهـات افـْقـهُ كوننـا
شعبـا يتامـى جـُلـّه و أرامـل
امـا قتـيلٌ شعبـُنـا او هـاربٌ
متـشـردٌ او ارمـلٌ او ثـاكــلُ
ولعل الرصافي لو كان حيا اليوم لتفتقت قريحته بأكثر من هذي المعاني بكثير، لما يراه من ساسة عصرنا وأولي أمره.
[email protected]