23 ديسمبر، 2024 9:37 م

الرحيل من بلد الأوباش

الرحيل من بلد الأوباش

برحيل الشاعر العراقي الكبير سركون بولص يكون المشهد الشعري العراقي خاصة والعربي عامة قد فقد واحدا من عمالقة قصيدة النثر ومن المجددين الذين استطاعوا ان ينقلوا الذائقة العربية وبمهارة قلّ نظيرها من القصيدة الكلاسيكية الى قصيدة النثر . فيما تجاوز سركون بولص في قصيدته الكثير من أقرانه ومجايليه والذين سبقوه ، واستطاع بولص منذ بداياته الاولى ان يتسلل خلسة الى قلب المتلقي وان يحدث أنفلاقاً شعرياً داخل القصيدة الحديثة في عقد الستينيات ، الامر الذي أنتبهت اليه الشعرية العربية برمتها قبيل ان يغادر وطنه العراق في أواخر العقد الستيني من القرن الماضي ، كما وينطبق فعل الانفلاق الشعري إذا جاز لنا تسميته على الشاعر حسب الشيخ جعفر في تلك الفترة الذهبية ايضاً عبر القصيدة المدورة التي ابدع فيها ايما ابداع .

لم يكن سركون بولص يوماً من الايام يحب الاضواء والاحتفاء به كبقية الشعراء غير انه ضل مواظباً على كتابة القصيدة وتطورها بطريقة المثقف البارع والشاعر المجدد الذي كلما كتب قصيدة جديدة أبدع في تكوينها وتجسيد ملامح صورها البارعة ، الامر الذي جعله يتأنى كثيراً حتى يصدر مجموعته الاولى ( الوصول الى مدينة أين ) في عام 1985 ، لقد ظل سركون بولص اكثر من عقدين من الزمان وهو يجرب ويجدد في قصيدة النثر حتى رسى على الصورة الواضحة تماماً بعد قراءات واشواط طويلة في معترك المعرفة الشعرية ، فهو يمتلك ثقافة واسعة ذات مناخات مختلفة أهلته لان يصنع قصيدة مغايرة عاكسة لمرآة الشعر الحقيقي والذي من خلاله استطاع بولص ان يأتينا بخلاصة الشعر من اعماق البحر ، ومن أبعد كوكب في السماء ، ومن زوايا درابين المدن المنسية ، ومن الارصفة وشوارعها ، ومن الغابات وأشجارها صاحبة الظل العالي ، ومن الحزن العميق والفرح البائس الذي لم يعرفه العراقي يوماً ، ومن الحروب وويلاتها والسلام الذي لم نراه ، ومن الحب والاخلاص ، ومن الحياة والموت ، ومن الطفولة حتى الشيخوخة ، ومن الصحراء ورمالها ، ومن الشتاء وزمهريره ، ومن الصيف وقيظه ، ومن كل شيء بعد أن تمكن في ترحاله الطويل أن يتعرف معرفة دقيقة على مجمل الآداب العالمية ويقارن ما بينها وبين الشعرية العربية . أنه الفنان الماهر شعرياً بتفاصيل الحياة اليومية وبدقة ، كما وأنه وظف أحسن توظيف الزمكانية داخل قصيدته التي شقت طريقها المغاير .

وقبل رحيله باسابيع قليلة كان سركون بولص قد نشر مجموعة من قصائده الجديدة ، وهو مقل جداً بالنشر هنا او هناك ، وحين قرأت القصائد ، كنت كمن تلقى لكمات متتالية ، لقوة النصوص التي نشرت ! فكتبت أليه معرباً عن اعجابي الشديد بتلك القصائد وسائلاً عنه ، وفي اليوم التالي جاء جوابه ليقول :

(عزيزي هادي، جميل أن أسمع منك وأشكرك على كلمتك بصدد القصائد
في هذا الزمن، كما يبدو يا صديقي، لم يعد لنا نحن العراقيين سوى أن نعري قلوبنا ونحن ندري أن العراقي وحده، أينما كان، سيفهم ، . يسعدني أنك اتصلت في هذا الوقت ، إذ أنني مسافر الى أوروبا بعد اسبوع ، وقد أعبر الى أسكندينافيا ، من يدري .
على أية حال سأراك بالتأكيد فأنا باق لمدة طويلة بعيداً عن بلد الأوباش هذا ، محبتي وتحياتي / سركون .. 5/6/2007) .

من خلال رسالته هذه أحسست بالعزلة الكبيرة التي يعيشها هذا الشاعر الفذ على الرغم من أنه أحب سان فرانسسكو ومكث فيها سنوات طويلة جداً ، كان حدسه في الموت واضحاً وكأنه يعلم سيبقى فترة طويلة حيث رقاده الابدي في برلين وما بين أصدقائه الذين احبهم وأحبوه ، ففي برلين يموت شاعر العراق المجدد سركون بولص الذي رفد الشعرية العربية بتجربة غنية بألتقاطاتها وتصورها وموضوعها الانساني البحت
. لقد أستطاع ان يتخطى المحلية ليصل الى العالمية ، فقد ترجمت قصائده الى الكثير من اللغات الاجنبية وتعرف على اهم الشعراء في العالم خاصة من الامريكيين الذين يمثلون جيل ( البيتنكس ) مثل ألن غينسبرغ وغريغوري كورسو ولورنس فيرلينغيتي وبوب كوفمن وغيرهم ، كما وأن شاعرنا الراحل أرفد المكتبة العربية بالعديد من الترجمات ونقل لنا الكثير من شعراء العالم الى العربية .

في عام 1985 أصدر سركون بولص ديوانه الاول (الوصول الى مدينة أين ) ، ثم تتالت مجاميعه الشعرية الاخرى ، الحياة قرب الاكروبول 1988 ، والاول والتالي 1992، وحامل الفانوس في ليل الذئاب 1996، وإذا كنت نائماً في مركب نوح 1998، كما وصدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان ( رقائم لروح الكون ) ، ومختارات قصصية باللغتين العربية والالمانية بعنوان غرفة مهجورة ، وكذلك سيرة ذاتية بعنوان شهود على الضفاف ، وكان قد وضع اللمسات الاخيرة لديوانه الجديد ( عظمة أخرى لكلب القبيلة ) الذي صدر بعد رحيله عن دار الجمل بالمانيا ،  رحل سركون بولص عن الدنيا بسرعة احدثت صدمة كبيرة لمحبيه وعشاق شعره وروحه العراقية الطيبة .

سركون بولص من الشعراء القلائل الذين اخلصوا للشعر ومبادئه بطريقة مغايرة مكنته لان يكون علامة فارقة بتاريخ قصيدة النثر العربية ، لقد عاش حياة ملؤها الفقر والحرمان ، ولد سركون بولص قرب مدينة الحبانية عام 1944 ومن ثم انتقل في طفولته الى مدينته كركوك وكون مع مؤيد الراوي وجان دمو وفاضل العزاوي وصلاح فائق بما هو معروف بجماعة كركوك ، أنتقل بولص من كركوك الى العاصمة العراقية بغداد ومنها الى دمشق ثم بيروت ، وما لبث حتى انتقل الى سان فرانسسكو ليقيم هناك دهراً..