23 ديسمبر، 2024 7:42 ص

الربيع العربي واغتيال الشعوب!

الربيع العربي واغتيال الشعوب!

في مخرجات ما أطلق عليه بالربيع العربي، الذي بدأت بواكيره على الطريقة الأمريكية في إزاحة مؤسسة النظام في العراق، حيث نجحت القوة الأمريكية ومن حالفها، سواء في العراق أو بعده في ليبيا وسوريا واليمن، ومن تحت الطاولة في بلدان أخرى، نجحت في تدمير كرسي الحكم وهيكل الإدارة، حيث هرب الدكتاتور مخلّفاً وراءه أفواجاً من اللصوص والقتلة، كما شهدناه على أرض الرافدين، حينما أطلق رئيس النظام، حينها، سراح كبار المجرمين والسفاحين واللصوص والقتلة قبل هروبه بعدّة أشهر، وتحت شعار ناعم هو تبييض السجون، لكي يكملوا المشوار من بعده مع مجموعات إرهابية عقائدية تم استيرادها قبيل حرب احتلال العراق بفترة وجيزة، فيما أوصى أركان حكمه وقيادات نظامه بسرقة ونهب كل موجودات البلاد ومخازنها ومعسكراتها وآلياتها، من سيارات وأسلحة في أبشع عملية إفراغ للدولة من مكنوناتها المادية والعسكرية والوثائقية والفنية والمتحفية.

  وفي الوقت الذي انكفأ دكتاتور العراق في حفرة تحت الأرض ليواري عورته وجرائم نظامه، حلّق دكتاتور تونس طائراً في الأجواء تاركاً منظومة متكاملة ممن تقع عليهم مهمة اغتيال الثورة أو الانتفاضة، حيث بدأت فرق الغوغاء بالانتشار في المدن والبلدات على طول البلاد وعرضها، لكي تثبت لتلك الجموع الثائرة ودول الجوار قبل غيرهم بأنّ ما يحدث هو نتيجة لغياب منقذ الأمة ومخلّصها الهارب، كما يفعلون في العراق منذ سنوات، في إحراق الأخضر واليابس تحت مختلف الشعارات الرنانة والجوفاء وبثياب دينية ومذهبية، وهم يستهدفون الأهالي العزل في الشوارع والأسواق والمساجد والكنائس والمدارس بنافورات من الدماء التي لم تنزف فيها قطرة من دماء المحتلين.

  صحيح أنّ دكتاتور تونس شدّ الرحال هارباً إلى جنة أخرى بعيدة عن قصره وعبيده، إلا أنّه ترك نظاماً أشرف على تربيته وصناعته لأكثر من عشرين عاماً، بذات الفكر والنهج، كما فعل النظام هنا في العراق، وترك سلوكيات ونهجاً في الثقافة والتفكير تعمل على إبطاء التقدّم، وتعرقل تحقيق الأهداف النبيلة في بناء بلد ديمقراطي حر، حيث استغلّت تلك القوى البديلة سلالم الديمقراطية في مجتمعات غير مؤهلة بالكامل لممارسة هكذا نظام، وتحت ضغط الشعارات العقائدية المرتبطة بالدين والمذهب والفتاوى، لكي تتبوّأ ثانية مراكز القرار، كما فعلت في مصر، وحاولت كثيراً وما تزال في تونس وفي اليمن، ناهيك عما حدث ويحدث في سوريا، التي حصرت النظام في زوايا ضيقة وشتتت البلد بيد ميليشيات ومافيات وعصابات تعتمد في معظمها الغطاء الديني السهل لتنفيذ عملياتها الإرهابية، كما يحصل اليوم في عفرين المستباحة، وفي كثير من المناطق الأخرى ذات الإدارة شبه المستقلة، بينما تم تقزيم النظام وتقطيع معظم أذرعه، والإبقاء على هيكله لحين اتخاذ القرار بمصيره.

  إنّ مجرد هروب دكتاتور لا يعني إنجاز الثورة أو التغيير المرتجى، فقد سجل التاريخ الكثير من عمليات الهروب والعودة، وما زالت ثورة مصدق الإيرانية وهروب الشاه في الذاكرة السياسية للشعوب الإيرانية، وفي تونس ما زالت قوى هذا الدكتاتور وغيره مهيمنة على كثير من المفاصل المهمة في الدولة والمجتمع، وهي قادرة على إحداث تغييرات بالاتجاه الذي تريده وبالضد من آمال وتطلعات الأهالي، فمعظم المؤسسات المهمة في البلاد هي من إنتاج وتصنيع ذات الفكر الشمولي الذي صنعه الدكتاتور علي زين العابدين، ابتداء من المؤسسة العسكرية والأمنية وانتهاء بالبرلمان وكثير من أوساط الطبقة المتوسطة، وبهذه المسطرة نقيس ذات الأبعاد، في العراق واليمن وسوريا وليبيا ودول أخرى لا تختلف عنها، كما في أفغانستان وإيران، ومع كل الاحتمالات الواردة في الصراعات الجارية اليوم في هذه الدول والمجتمعات، فإنّ ما يحدث الآن ورغم بؤسه وقسوته أيضاً إلا أنًه يؤشر تطوراً نوعياً في الأداء الشعبي المعارض الذي تمثّل في اندلاع احتجاجات وتظاهرات كبيرة وعفوية اخترقت حاجز الخوف وتمردت على الميليشيات ونظامها الحاكم من دمشق إلى طرابلس وصنعاء وبغداد وتونس والجزائر، وهي بالتأكيد واحدة من أولى ردود الأفعال لعملية التغيير الجارية في بلاد الرافدين منذ الاحتلال في 2003 وحتى اندلاعها في تشرين 2019، بكل ما رافقها من إيجابيات خلاقة ومن أخطاء أو تشويهات من قبل معظم الأنظمة السياسية وأجهزة إعلامها التي تنتمي لعقلية وثقافة الحكم الشمولي.

  ويقيناً، إنّ ما يجري هنا في العراق من عمليات إرهابية وتعقيدات لتأخير أو إعاقة تطوّر العملية السياسية والبناء الديمقراطي، إنّما تتورّط فيه كثير من الميليشيات والأنظمة ذات النظم المستبدة والدكتاتورية، لأنّها تتقاطع وطبيعة التكوين السياسي والاجتماعي للنظام الجديد وفلسفته في التداول السلمي للسلطة والاعتراف بالآخر المختلف، ولكي تنأى بنفسها وأنظمتها عن نيران التغيير التي تصبّ في خانة الشعوب وتعيد تعريفات كثير من المصطلحات والتسميات لكي لا يكون الرئيس موظفاً يؤدي خدمة عامة حاله حال أي موظف آخر، بل ليبقى كما يريدوه في كل هذه المنطقة، زعيماً ومنقذاً وملهماً فوق الشبهات والشك والنقد، لا شريك له ولا معترض، وهذه المرة باسم الرب بدلاً من الأمة أو الشعب.

  إنّ ما يحصل اليوم في العراق وتونس يمثّل رسالة مهمة جداً لشعوب هذه المنطقة، بعد أن ذاقت الأمرّين من حكم الطغاة المستبدّين لعشرات السنين، وهي تبشّر ببداية عمليات تغيير واسعة النطاق في معظم هذه البلدان، ترافقها عمليات تشويه وصراع خفي لوأد الحركة أو تقزيمها من خلال ما يحدث من تداعيات أمنية تقوم بها أجهزة الأمن المرتبطة بنظام الحكم كما يحصل على أيدي الميليشيات في تعاملها مع المحتجّين، في محاولة لاغتيال الحركة أو الانتفاضة بشتّى الطرق والأساليب، مستغلّة الكثير من نقاط الضعف والتناقضات التي أنتجتها الأنظمة السياسية المستبدّة على كل الصعد، إنّهم يرعبون الناس بمقولة “إنّ أيّ تغيير في البلاد وطبيعة النظام ستؤول فيه الأحداث إلى ما آلت إليه في العراق من حمامات للدماء وحرب طائفية أو عرقية، وإنّ النظام الحالي مهما يكن فهو أفضل بكثير مما سيحدث من فقدان للأمن والسلم الاجتماعيين”، وبذلك يغطّون على تورّطهم بكثير من تلك الحمامات، وحتى الحروب الداخلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، إنّهم يحاولون اغتيال مبدأ الثورة أو الانتفاضة لدى الاهالي، من خلال الترهيب والاغتيالات والخطف وإشاعة الفوضى وعمليات السلب والنهب وفقدان الأمان، لتكريس الاستكانة والعبودية لدى العموم من الأهالي.

[email protected]