دراسة تحليلية
لا يمر يوم إلا ونسمع عن حادثة إرهابية شنيعة في أغلب دول العالم، لُيبرهن لنا جماعات العنف والتكفير أنهم مصممون على تشويه صورة الإسلام ودين محمد الرسول العظيم، النبي الأمي الذي خاطبه الله تعالى في كتابه العزيز (وإنك لعلى خلق عظيم). وإذا ما تناولنا انتشار ظاهرة الإرهاب وتحديدا في دول أوروبا والحادثة الأخيرة التي قُتل فيها المدرس الفرنسي، فبالتأكيد أننا سنقف عند حقيقة مهمة جدا مفادها:
إن كل عملية إرهابية تحدث في الغرب هي تجسيدا لفكرة الجهاد الكوكبي أو ما تسمى بالجهاد العالمي الذي وضع أسسه وقواعده المدعو (عبد الله عزام) الأب الروحي لتنظيم القاعدة وزعيمها الأول، عندما اعتبر عزام أن نقطة البداية في قضية الجهاد العالمي هي أفغانستان، ومن أفغانستان سيتم إعادة باقي أراضي المسلمين التي تم الاستيلاء عليها من قبل الكفار بحسب وصفه، وبعدها ينتقل الجهاد إلى باقي دول العالم ليقيموا فيها شرع الله. وبهذا الصدد يقول عزام في كتابه الشهير (آيات الرحمن في جهاد الأفغان) ” أن الثورة الأفغانية جهاد إسلامي يقوم به شعب مسلم صادق ويقود الجهاد أناس عقيدتهم واضحة لا يكرهون الصحابة ولا ينكرون الأحاديث، وفرض علينا أن نساعدهم وأن نقف بجانبهم لتأدية الفريضة وتقديم الواجب. وعليه فقد قد حان الوقت للمسلمين لتنطلق دعوتهم من أرض صلبة يكون فيها الحكم لدين الله وشريعته، والتخلص من الكفر والجاهلية فوق أي أرض”.
وبعد مقتل عزام عام 1989 تولى نائبه أسامة بن لادن قيادة تنظيم القاعدة، ويعتبر بن لادن المُنظر الأقوى للقاعدة، حيث أكمل بن لادن مسيرة عزام، وفي 11 سبتمبر عام 2001م، برهنت القاعدة على هول تهديدها ومنهجها المتطرف وفكرها التكفيري، حين خططت ونفذت أشهر وأكبر هجوم إرهابي في العالم، بحجة الدفاع الإسلام والمسلمين. بيد أن فكرة الجهاد العالمي هذه، مثلت الأيديولوجيا التي تبناها تنظيم القاعدة، تلك الأيديولوجيا، التي كانت في جوهرها تُعبر عن مشاعر أفراد التنظيم المتعلقة بالأمة الإسلامية الموحدة، لكن هذه المشاعر غير مؤسسة على المدارس الفقهية الإسلامية الصحيحة، بل أنها ناجمة عن المأزق الفكري للإسلام الحديث.
في الجانب الآخر من الرواية، كان للغرب دورا مهما وبارزا وتحديدا الإعلام الغربي في دعم وتقوية الإرهاب والإرهابيين وكما يلي.
التوظيف الدولي لظاهرة الإرهاب:
شخصنة الإرهاب:
يعتبر مفهوم صراع الحضارات أو الثقافات من بين المفاهيم الرائجة التي فرضتها التغيرات الحاصلة في العلاقات الدولية لفترة ما بعد الحرب الباردة، فقد أصبحت الدول الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية) في إطار بحثها عن عدو يحل محل الاتحاد السوفيتي. حيث بدأت تلك الدول تروج إلى الصراع والصدام مع العالم العربي والإسلامي، متهمة إياه بكل مظاهر العنف والتعصب والتخلف، إلى أن ترسخت تلك الصورة في مخيلة المواطن الأوروبي البسيط، بعد أن استغلت الدول الغربية في حملتها الدعائية ضد الإسلام تقدمها التكنولوجي في وسائل الاتصال، من خلال توظيفها لبعض السلوكيات الخاطئة لعدد من الحركات الإسلامية التي تدعو تمثيلها للإسلام، وقد أنتج مثل هذا التوظيف الدعائي مفهوم الإسلاموفوبيا، وهو الخوف من الإسلام، الذي انعكس سلبا على العلاقات السلمية بين الشعوب.
نعوم تشومسكي:
يرى الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (السيطرة على الإعلام)، أن الحرب على الإرهاب لم تكن في 11سبتمبر 2001، بل تم إعادة الإعلان عنها إعلاميا في ذلك اليوم. لأن الرئيس الأمريكي (رونالد ريغان) عندما وصل إلى السلطة أعلن أن جوهر السياسة الخارجية الأمريكية ستكون الحرب على الإرهاب، منددا بما أسماه وباء الإرهاب الشرير، حيث وصف الإرهاب الذي ترعاه الدول في العالم الإسلامي بوباء ينشره خصوم الحضارة الفاسدون وتحديدا كان ذلك في عام 1985. وفي نفس العام عملت الماكينة الإعلامية والدعائية الأمريكية بكل ثقلها على الترويج للحرب ضد الإرهاب، كان أبرزها عندما اختارت وكالة الأسوشيتدبرس موضوع الحرب على الإرهاب كمحور للاستطلاع السنوي. وبالتالي فقد أعيد الإعلان عما يسمى الحرب على الإرهاب في احداث 11 سبتمبر 2001، لأن هذا الحدث الإرهابي قد احتل معظم وسائل الإعلام الأمريكية من الصحف والتلفزيون والراديو وغيرها. إذن فهي الأهداف ذاتها، بمعنى أن خصوم الحضارة في رأي الإعلام الأمريكي هم نفسهم كانوا في الثمانينات محاربي الحرية الذين دربتهم وسلحتهم المخابرات المركزية الأمريكية ومعاونوها وكانوا أولئك اللبنة الأولى في الحرب على الإرهاب. وفي السياق ذاته، بتاريخ 22 يناير عام 2001 كتبت جريدة (الوول ستريت جورنال) أن اثنين من زعماء الفصائل في أفغانستان على وشك الدخول في حرب أخرى وغيرها من عناوين مثيرة ومرعبة بمثابة عناوين للأخبار تتصدر الصحف الأمريكية في الحرب على الإرهاب، ذلك تمهيدا للتدخل الأمريكي في أفغانستان، والذي كان واضحا على لسان الأدميرال (مايكل بويس) رئيس هيئة الأركان البريطانية في الصفحة الأولى لجريدة النيويورك تايمز في 28 أكتوبر 2001، حيث أعلن بأن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ستواصلان هجومهم ضد أفغانستان حتى يقوم الشعب الأفغاني بتغيير قياداتهم.
صامويل هنتنغتون وصدام الحضارات:
وبالتالي فقد برز الغرب على المستوى السياسي والإعلامي، وبدأ الحديث عن العدو الجديد للمنظومة الغربية وهو الإرهاب، وأطلق الباحث الأمريكي (صامويل هنتنغتون) نظرية صراع الحضارات، وسرعان ما أصبحت تلك النظرية مرجعا يُستغل من قبل الغرب للتحريض على المسلمين حتى يومنا هذا. فقد اتهم هنتينغون المسلمين بأنهم الأكثر تورطا في العنف بين الجماعات في شعوب الحضارات، حيث أعتبر هنتنغتون أن الإسلام كان دينا للسيف منذ البداية وإنه يُمجد فضائله القتالية، وإن أن تعاليم الإسلام في رأيه تنادي بقتال غير المسلمين، وهذا ما يفسر الصراع عبر التاريخ، ويقول هنتنغتون في كتابه المعروف (صدام الحضارات) “أن أسباب الصراع المتجدد بين الإسلام والغرب تكمن في الخلافات حول حقوق أبناء حضارة ما في دولة يسيطر عليها أبناء حضارة أخرة. أي من الذي يجب أن يحكم، ومن الذي يجب أن يكون محكوما؟ من هو المحق، ومن هو المخطأ؟”
وفي السياق ذاته لا يمكننا إغفال دور وسائل الإعلام العالمية في تغذية ودعم أو ظهور العنف والإرهاب من خلال استغلال الإرهابيين لها في تسويق أغراضهم وغاياتهم وتوظيفها في تضليل الأجهزة الأمنية واكتساب السيطرة على الرأي العام عن طريق نشر أخبار العمليات الإرهابية التي يقومون بتنفيذها.
الكاتب كريك وين .. وتجاوزه على شخص الرسول العظيم في كتابه (نبي المقابر):
إن قضية الإساءة للرسول الكريم وتحولها إلى قضية عالمية اشتهرت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث شهد العالم تصاعدا في الكتابات التي تُصغر من الرسول العظيم والإسلام والمسلمين، حتى أن أشهر الكتب صدرت بعد أحداث 11سبتمبر يحمل عنوان (نبي الخراب) عقيدة الإسلام الإرهابية، للكاتب (كريك وين) الذي ربط ما بين القرآن والسيرة النبوية الشريفة وبين العنف والإرهاب، وبدأت مرحلة جديدة من الإساءة للإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي عموما، بدأتها صحيفة يولاند بوستن الدنماركية بنشر 12 صورة كاريكاتيرية للإساءة للرسول الكريم، وبعدها قامت صحف أخرى في عدة دول أوروبية، كالنرويج وألمانيا وفرنسا بإعادة نشر تلك الصور.
صحيفة شارل إيبدو الفرنسية والإساءة للرسول الكريم:
ولم تقف الإساءة للرسول الكريم محمد (ص) إلى هذا الحد فقد تجاوزت تلك الإساءة كل المعايير الأخلاقية، والمهنية، فجاءت حادثة الهجوم على صحيفة (شارل إيبدو) الفرنسية في عام 2015، والتي تعتبر من أشهر العمليات الإرهابية التي عرفتها فرنسا في عصر انتشار الإرهاب، وتؤكد هذه الحادثة العلاقة الوثيقة بين الإرهاب والإعلام. فقد جاء هذا العمل الإرهابي ردا على الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) التي نشرتها الصحيفة المذكورة، حيث استغلت صحيفة شارلي إيبدو هذا العمل الإرهابي ضدها كطريقة للشهرة والمال من خلال الإثارة والتحريض والذي تحقق، أي الشهرة والعالمية والانتشار الواسع، بعد الهجوم عليها، حيث باعت ثلاثة ملايين نسخة من أول عدد لها صدر بعد الحادث.
وبالعودة للتاريخ قليلا، نلحظ أن الخطاب الإعلامي الفرنسي كان يتبع استراتيجية معينة اتجاه الجماعات الإرهابية والتنظيمات التكفيرية في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين، حيث كان المجاهدون في أفغانستان موضع ثناء بالنسبة للإعلام الفرنسي، فليس مهما أن جلُ هؤلاء المقاتلين الذين رفعهم الإعلام الفرنسي إلى مرتبة الأبطال هم مسلمون متشددون، بعد أن أطلقت عليهم الصحف الفرنسية (مقاتلو العقيدة المنخرطين في الجهاد)، ووصفتهم وسائل الإعلام الفرنسية وكأنهم مرسلون من السماء لمواجهة طموحات الاتحاد السوفييتي التوسعية، بل وصل الأمر إلى أنه في 19 كانون الأول 1984، ذكرت صحيفة (اللوموند) الفرنسية أن بعض الفرنسيين يعملون مع المقاومين الأفغان، وإن ثمة مخاوف في تلك الفترة من عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدهم وهم متطرفون بسبب تجربتهم في الحرب. وعليه فإن الإعلام الفرنسي في تلك الفترة لم يكن يرى الدين الإسلامي بوصفه عامل تخلف إلا إذا تعارض مع مصالح الغرب الاستراتيجية. لكن بعد الاستقطاب والحشد للقضاء على الاتحاد السوفيتي ومرور عشرات السنين، يرى الإعلام الفرنسي اليوم بأنه كان مخطأ على تشجيعه للجماعات الإسلامية المتطرفة، وأن ما قدمته فرنسا من دعما يوما ما إلى الجماعات الإسلامية الذين أصبحوا إرهابيون فيما بعد. ولهذا فإن الجماعات الإسلامية المسلحة في أفغانستان (طالبان)، وتنظيم القاعدة، كل هؤلاء المقاتلين الذي وصفهم الخطاب الإعلامي الفرنسي بالأبطال آبان فترة الصراع ضد الشيوعية، باتوا اليوم مصدرا للبغض والفزع، وأُطلق عليهم بالمتعصبين والمتطرفين والبرابرة، وبات هدف القضاء على هذه التنظيمات والجماعات التكفيرية في الوقت الحاضر أهم من سقوط الإمبراطورية السوفيتية آنذاك من وجهة نظر الخطاب الإعلامي الفرنسي.
وتأسيسا لما تقدم:
أنه من المجحف أن يتعامل الإعلام في الدول الغربية، مع الإرهاب بأنه يقوم على أسس دينية، بالإضافة إلى أغفال كثير من الحقائق منها عدم الإشارة إلى أن أعمال العنف والممارسات الإرهابية لم تستهدف فقط الشعوب الغربية، بل أنها استهدفت وما تزال في المقام الأول الشعوب ذات الأغلبية المسلمة مباشرة، وهذا ما تؤكده الأحداث التي تجري في العراق وسوريا ولبيا وكذلك في شمال سيناء بمصر الذي ينتشر فيه تنظيم أنصار بيت المقدس. ومن هنا تعتبر مسألة أتهام الإسلام بالإرهاب قضية جدلية ومحل خلاف كبير داخل المجتمعات الإسلامية نفسها. ونتيجة لذلك، استغلت وسائل الإعلام الغربية ظاهرة الإرهاب والعنف في تشويه صورة الإسلام والمسلمين والإساءة له، من خلال الترويج للمفاهيم السلبية التي تعمل على تشويه معاني الإسلام، التي تطرحها الجماعات الإسلامية المتشدد ونهجها الإرهابي.
إن الصورة السابقة عن الإسلام والمسلمين، التي روجت لها وسائل الإعلام الغربية، شجعت اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوربا على طرح دعوة الحرب على الإسلام بذريعة القضاء على ما يسمى بالإرهاب، لاسيما أن الإعلام الغربي قد اعتمد على أسلوب الانتقائية في تقديم الحجج والبراهين والبيانات التي تنسب كل الأعمال الإرهابية التي وقعت في العالم للإسلام والمسلمين.