18 ديسمبر، 2024 9:39 م

الرابع عشر من تموز 1958 هل كانت ضرورة أم ضررا ؟

الرابع عشر من تموز 1958 هل كانت ضرورة أم ضررا ؟

1/ 3
مقدمة ———————————

منذ صغري وانا اشكك بمقولات المؤرخين ! وقد اقنعتني قراءاتي ان المؤرخين كانوا يكتبون ما يريده الحاكم ليغنموا منه المال الحرام ولينعموا بالجاه والرفاه ! احد مؤرخينا القدامى كان يكتب بين قارورتين : خمر وحبر ! والآخر كان يكتب وهو بين حضنين حضن تحت رجليه وحضن بين رجليه ! والآخر والآخر !! تاريخنا كتبه امثال هذين وهما علمان معروفان متدينان لم تفتهما الصلاة في اوقاتها ولم يتهربا من الزكاة لمستحقيها ! وكان صديقنا الشاعر الكبير والانسان الكبير الدكتور مصطفى جمال الدين رحمه الله يخاطب بغداد في الفيتها :

وحذارِ ان تثقي براي مؤرخ للسيف لا لضميره ما يسطر

وقال الشاعر العظيم معروف الرصافي نور الله ثراه

و ما كتب التاريخ في كل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق

نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق

وحين شاب راسي ورشدت تجربتي اكتشفت ان المؤرخين قديما وحديثا يكتبون وأعينهم على الجماهير الحمقاء قبل ان تكون اعينهم على جيب الحاكم المعطاء ! فكم من مؤرخ قديم او حديث فتكت به الغوغاء لأنه خالف هواها فيما كتب ؟

عرض ————————-

مازال الحديث عن فجر 14 تموز 1958 من خلال وجهة نظر مغايرة محفوفا بالمخاطر ! فقد قر في وجدانات الجماهير ان هذا اليوم كان يوم السعد للعراق حين اشرقت فيه شمس الديموقراطية واستطاع المتظاهرون اقتحام القصور الملكية والحكومية بنداء موجه من العقيد عبد السلام عارف من خلال الاذاعة وعملوا فيها وبساكنيها اعمالا لاتليق بالعراق المتحضر وارث الحضارات ! ومازال المؤرخون ممن هم الى صف 14 تموز 1958 او ممن هم ضده مازالوا يتكتمون ما حاق بسكان القصور رجالا ونساء من افعال مشينة يندى لها الصخر الأصم ! ومنذ ذلك اليوم تمت عسكرة الشارع والوعي الجمعي وظهرت شعارات لم تكن معروفة في معجم الشعب العراقي والغريب حقا ان الاحزاب اليسارية مثل الشيوعي والديموقراطي والاحزاب اليمينية مثل الاستقلال والقوميين هذه الاحزاب كانت مع العسكرة والشعارات الكزة حتى اختلف الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد لسلام عارف على كرسي الحكم فاختلفت الجماهير بين مؤيد للزعيم مثل الشيوعي والديموقراطي ومؤيد للعقيد مثل الاستقلال والقوميين !! ومنذ الوهلة الاولى ليوم 14 تموز 1958 كرست شخصية عبد الكريم قاسم على انها هبة الله للعراقيين فانتشرت صوره في كل مكان وهذا الامر لم يكن مألوفا عند العراقيين ! والزعم بأن قاسم قال للخباز كبر الرغيف وصغر صورتي انما هو مجرد زعم صاغه العقل الجمعي لمحبيه ! ثم صرنا نسمع الجماهير تردد بهتافات مدوية مثل ( زعيمنا الاوحد عبد الكريم قاسم ) ومثل ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ) ومثل ( ماكو زعيم الا كريم ) ومثل ( إعدم نفذ مطاليب الشعب واعدمهم الليله ) وقائمة الشعارات الكارثية طويلة جدا ! وصار مألوفا كثرة السيطرات في الطرقات فمثلا من بغداد الى الحلة قد تواجهك عشر سيطرات وعليك ان تنزل من السيارة وان تفتش انت وحقائبك بطريقة مقرفة ! وثمة نفر كبير من الناس يتعاطف مع هذه السيطرات ويسمع عناصرها الثناء العاطر مثل ( عفية السباع ) ( فتحوا عيونكم زين اخوتي ) !! وقبل 14 تموز كان بعض الفلاحين قد هرب من الحقول بسبب ظلم الاقطاع أو بسبب خلاف عائلي يترتب عليه الثأر او بسبب رغبة الفلاح في الحياة ببغداد حيث الشوارع النظيفة والناس المتمدينين والاسواق التي تعرض بضائع غير معروفة في الريف والمعيشة الفارهة واختار الفلاحون السكن في بيوت الصفيح او الطين في منطقة اسمها خلف السدة اي سدة ناظم باشا ! وتعاضدت نزعات الجماهير المنتقمة مع نزعات العسكريين عديمي الخبرة بمفرات الحكم ! فصدر قانون الاصلاح الزراعي الذي جعل الارض الزراعية ملكا للفلاح فهرب الاقطاعيون وبعضهم هلك تحت ارجل الفلاحين وانشغل الفلاح بالتظاهرات فأهملت الزراعة ! وكابد سكان بغداد مشكلة لم تخطر على بالهم فإذا كانت اجرة العامل غير الماهر ربع دينار 250 فلسا واجرة العامل الماهر نصف دينار 500 فلسا ! فنافسهم الفلاح العاطل وكان مستعدا ان يعمل اليوم بطوله لقاء 100 فلسا فكان البغدادي في وضع معيشي جديد لايحسد عليه ! ويقابل ذلك المؤسسات الصناعية فقد استولى العمال على المصانع وهرب المالكون تاركين الجمل بما حمل ! وانشغل العمال بالتظاهرات شبه اليومية والحراسات الليلية لحماية الجمهورية العراقية الخالدة من مؤامرات عملاء الاستعمار والفاشية ! وحدث مثل هذا في المؤسسة العسكرية التي عانت من سلوكيات صبيانية اخلت كثيرا بالالتزام العسكري والتقاليد التي يسمونها الشرف العسكري ! فبات ذوو الرتب العالية خائفين من حنق الجنود والعرفاء مما اضطرهم الى منافقتهم ومحاكاتهم في بعض تصرفاتهم وكما حدث في الزراعة والصناعة والجيش حدث قبل ذلك خلل كبير في مؤسسة الحكم فما عادت المسلكية مسبارا ولا الكفاءات مقياسا فبات مألوفا احتلال العسكريين لكثير من الوظائف المدنية المؤثرة على حيوات العراقيين كما قبل العقل الجمعي بان يتسنم حامل الشهادة المتوسطة منصب المدير العام ! كل ذلك والزعيم عبد الكريم قاسم منشغل بتثبيت مكانته في وزارة الدفاع والتخلص من العسكريين والمدنيين المتعاطفين مع عبد السلام عارف ! وكانت محكمة الشعب التي احتلت موقع البرلمان القديم والناس تسميها محكمة المهداوي كانت هذه المحكمة قد ساهمت في تأجيج البغضاء بين جماهير وجماهير وصار التلفزيون والاذاعة مدمنين على خطب عبد الكريم قاسم وزياراته وخطب فاضل عباس المهداوي وماجد محمد امين ! وبكل اسف ان مؤرخي 14 تموز 1958 سكتوا عن تلك السلوكيات غير الحضارية وركزوا مثلا على بناء مدينة الثورة الذي شجع الفلاحين ممن تركوا الزراعة وجعل كثيرا من الفلاحين يتهيأون لترك مزارعهم والعيش في مدينة الثورة ! وبدلا من ان تعالج مشكلة هجرة الفلاحين الى المدن صارت القرارات الشعبوية مسوغا لتدهور الزراعة والصناعة والتجارة والادارة !! وهنا يكون من حق القاريء الكريم التساؤل عن الجانب الآخر المقابل لجانب الزعيم عبد الكريم قاسم واعني تحديدا جانب العقيد عبد السلام عارف الذي حظي بفيالق المؤيدين له ! قبلا كانت جماعة سلام عارف هي حزب الاستقلال والقوميين والناصريين والبعثيين وبعدا انضم اليهم الاقطاعيون والراسماليون ورجال العهد الملكي وحشر كبير من رجال الدين فرجحت كفة عارف وهو المنفي عن السلطة وبهتت كفة قاسم لذي امسك السلطة بقبضة من حديد وقد اثملته المظاهرات المؤيدة ! وفي كتاب لعبة الأمم الذي اصدرته المخابرات البريطانية غب عدد من العقود ! في هذا الكتاب معلومات وتلميحات عن صراع خفي بين بريطانيا وامريكا على ملكية العراق وهي معلومات وتلميحات غير دقيقة وقد تكون مسربة من اجل خلط الاوراق ونفهم من لعبة الامم ان العهد الملكي كان بريطاني الهوى بينا كان العهد الجمهوري امريكي الهوى ! وهي معلومات لايطمئن اليها الوعي السياسي التاريخي ! فنحن اذن لسنا مع فريق قاسم ضد فريق عارف كما اننا لسنا مع عارف ضد قاسم ! وان كان ولابد فنحن مضظرون لمظاهرة الزعيم قاسم ومن معه ! فالعقيد عارف كان طائفيا مهذارا وربما كان يعاني من لوثة في عقله ومن مع عارف كانوا في جلهم بعيدين عن مصلحة الشعب العراقي وها ان الايام اثبتت كيف ابتلي العراق ابتلاء كارثيا بعارف والبعثيين ونفر من القوميين العنصريين الشوفونيين !

عودة الى 14 تموز 1958 والزعيم عبد الكريم قاسم ! لقد اقترن هذا اليوم بقاسم وتخندقت الجماهير الفقيرة مع عبد الكريم قاسم بل انضمت الكفاءات العراقية الى عبد الكريم قاسم بعد ان يئست من عبد السلام عارف ومغامراته ومغامرات جماعته ! وكانت الفرصة ماثلة امام قاسم كي يبني عراقا ديموقراطيا يسوده السلام والتسامح لكن قاسم لم يقم في زمانه برلمانا وكانت الثقافة البرلمانية العراقية راقية ثقفها من العصر الملكي كما ان قاسم لم يعمل على انقاذ الشارع العراقي من ثقافة العسكرة وما افرزته من ظواهر الاعتداء على المواطنين او الحبس الكيفي بسبب افكارهم بل ووصل الأمر الى الاغتيال والقتل ! ومع ان الشيوعيين قد حسموا امرهم وتخندقوا مع قاسم بيد انه ان كثير التوجس منهم ! وقد سجن عددا من الحزبيين الشيوعيين وعمل نوعا من الموازنة في الشارع العراقي بين فئات اليسار وفئات اليمين وكانت المظاهرات تدعو الى تركيز الوجود الشيوعي في الحكومة ( سبع ملايين تريد حزب الشيوعي في الحكم ) وارتكب عبد لكريم قاسم اخطاءَ بسبب من تفرده بالقرار وعدم الاعتماد على المستشارين ! نذكر منها مثلا :

1/ بعد حوادث الدملماجة وصف قاسم الشيوعيين بالفاشست

2/ اشغال الجيش العراقي بمقاتلة اخواننا الكورد مما اشعل السعير العنصري

3/ مطالبته بدولة الكويت وتعيين اميرها قائمقاما وذلك ضرب من الاهانة وتكليف الجنرال الحصونة بدخول الكويت وقد عصى الحصونة ذلك التكليف .

4/ زج رجال الدين بالحياة السياسية وقد اصدر امرا تعسفيا بتعيين رجال الدين ( رجل الدين في العراق هو المعمم فقط خلافا لمصر مثلا ) تعيين المعممين معلمي ابتدائية دون تأهيل هؤلاء للتدريس وكان بعضهم لايقرأ ولا يكتب !

5/ فسح المجال لقريبه المهداوي كي يقول ما يشاء في المحكمة بحيث كان ينال من دول الجوار ويهين المتهمين بل وكان بعض حضور المحكمة يبصق على المتهم ويسمعه كلاما غير لائق وقد شهدت ذلك بنفسي بل وشهدت ضرب المتهم وهو في طريقه الى قفص الاتهام

5/ تنفيذ حكم الاعدام برفاقه في منظمة الضباط الاحرار مثل الجنرال ناظم الطبقجلي وجماعته

6/ السماح بتوجه قطار السلام الى الموصل ومعظم راكبيه بين شيوعي اومؤيد للشيوعي وكانت الموصل بؤرة القوميين والمدينة برمتها تغلي وقد حذر بعض المقربين لقاسم حذروه من مغبة عقابيل القطار فلم يصغ اليهم

7/ ترتب على استفزاز جماهير الموصل عهد ذاك ان قرر الجنرال عبد الوهاب الشواف القيام بانقلاب عسكري منسقا مع ضباط داخل بغداد بل وداخل وزارة الدفاع

8/ كان عبد الكريم قاسم يوازن الشارع العراقي يمينا ويسارا ! وحتى المرافقين الشخصيين له كانوا بين مؤيد للشيوعيين ومؤيد للقوميين

9/ بات عبد الكريم قاسم خصما لدودا لجمال عبد الناصر وفي واحدة من خطبه اسماه مسيلمة الكذاب والشارع العراقي (حتى بعض اليساريين) ما فتئوا متعاطفين مع عبد الناصر ! وحسم قاسم موقفه فبات عدوا رسميا للتيار القومي ومع ذلك كان مدير الاستخبارات العراقية في عهده هو الجنرال عبد المحسن الرفيعي ذو الميول القومية والاسلامية ولم يكن الرفيعي مرتاحا لاعدام صديقه الجنرال رفعت الحاج سري ! وكان قاسم يطلب الى الرفيعي معلومات عن ضباط هم اصدقاء الرفيعي !! قارن كتاب ( انا والزعيم ) اعداد وتحرير الدكتور ستار جبار الجابري ففيه مذكرات العقيد محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم .

البقية في الحلقة الثانية