22 ديسمبر، 2024 7:50 م

الرئيس ترامب … ومحاولة انقاذ الرأسمالية الأمريكية …؟؟

الرئيس ترامب … ومحاولة انقاذ الرأسمالية الأمريكية …؟؟

لو لم يكن الرئيس دونالد ترامب من أصول أجنبية هاجرت الى الولايات المتحدة نهاية القرن التاسع عشر لما استغربنا معاداته لللاجئين والمهاجرين الاجانب الى الولايات المتحدة. فقد خرج عن الأعراف الدولية التي ضمنت حقوق اللاجئين لاسباب انسانية باصداره قرارا تنفيذيا يمنع بموجبه منح اللجوء السياسي والانساني للمواطنين من سبعة دول اسلامية ومنعهم من دخول الولايات المتحدة وطرد كافة المهاجرين الذين دخلوا البلاد ولم يستكملوا اجراءات الاقامة لأي سبب. انه بذلك يحاول الظهور كوطني غيور يدافع عن مصالح ابناء جنسه لغرض كسب اصواتهم والدفع به للفوز برئاسة القصر الأبيض ضد منافسيه وفي مقدمتهم هيلاري كلينتون التي كانت حظوظها بالفوز شبه مؤكدة وفق غالبية استطلاعات الرأي وقد نجح في ذلك ، لكن ليس لوقت طويل.
 
فبالعودة الى سجله العائلي ظهر انه من أصول المانية حيث هاجرت عائلته الى الولايات المتحدة نهاية القرن التاسع عشر. فجده فريدريك ترامب (1869 – 1918) مولود في مقاطعة كالشتات(  Kallstadt ) في مملكة بافاريا هي الآن مقاطعة راينلاند ألألمانية. فريدريك ترامب أجبر على مغادرة بافاريا مسقط راسه عام 1904 خلال مدة أقصاها ثماني اسابيع تنفيذا للامر الملكي عقابا له لتهربه من الخدمة العسكرية ولعدم ادلائه بحقيقة محاولته الأولى للهجرة الى الولايات المتحدة في عام 1885*. وكما يقال في الفولكلور الشعبي العراقي ( الولد على سر أبيه) فدونالد الحفيد قد تهرب هو الآخر من الخدمة العسكرية في موطنه الجديد أمريكا.
 
دونالد ترامب المهاجر من أصول المانية بدلا من ابداء التضامن والتعاطف والحميمية تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء في الولايات المتحدة يقوم بمعاقبتهم وهو على معرفة تامة بمحنتهم وظروف عيشهم.  فأولائك المهاجرين هم من دفعت بهم حروب أسلافه الرؤساء السابقين بوش الأب وبوش الأبن واوباما على ترك بيوتهم وممتلكاتهم للعيش في البراري وأنقاض المدن الخربة قبل أن يخاطروا بحياتهم وبمن تبقى من عائلاتهم مستخدمين كافة وسائل النقل بما فيها الخطرة لعبور البحار مستخدمين القوارب المطاطية باتجاه أوربا ودول العالم الأخرى طلبا للنجاة وحياة آمنة لاطفالهم. لقد أثارت القرارات التنفيذية التي أصدرها دونالد ترامب استياء شعبيا واسعا داخل الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم بما فيهم دول الاتحاد الاوربي وبريطانيا وكندا. ففي بريطانيا طالبت جماهير شعبية وأعضاء في مجلسي النواب واللوردات وقف تلك الاجراءات المسيئة للتقاليد الديمقراطية وحقوق الانسان ونددوا بها بكونها مثيرة لمشاعر عنصرية وتشجع على الكراهية داخل المجتمعات الأوربية.
 
وقد ندد وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا والمانيا بقرارات الرئيس الامريكي بمنع مسلمي سبعة دول اسلامية من دخول الولايات المتحدة بقولهم ان قرار المنع يقلقنا فنحن ملتزمون بمسئوليتنا الدولية بالترحيب بالمهاجرين الذين اضطروا لترك أوطانهم بسبب القمع والحروب ووعدوا باثارة الموضوع مع وزير الخارجية الأمريكي أريك تليرسون. وفي الولايات المتحدة ذاتها احتج القائم باعمال المدعي العام في المحكمة العليا السيدة سالي ياتز رافضة الدفاع عن قرار ترامب في المحاكم الامريكية لكونه مخالفا للدستور الأمريكي كما قدم عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين في الخارج مذكرة عارضوا فيها قرار الرئيس الأمريكي. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده الناطق الرسمي باسم القصر الابيض سين سبايسر اجاب على سؤال أحد الصحفيين حول مذكرة الدبلوماسيين قائلا : ” أما أن ينفذوا القرار الرئاسي أو يتركوا العمل “.عدا ذلك فان احتجاجات واسعة النطاق قدرت بمئات الالاف انطلقت في كثير من المدن الأمريكية والعالم مستنكرة القرارات الرئاسية لترامب ومرحبة بالمهاجرين الاجانب دعت اليها مئات المنظمات الديمقراطية والاجتماعية وحماية البيئة بمافيها الحركات والأحزاب  السياسية اليسارية.
 
سياسة ترامب التي عبرت عنها قراراته المعادية للاجانب والهجرة واللجوء السياسي الموجهة بوجه خاص ضد دول في الشرق الأوسط سببت غضبا عارما انطلقت عل اثره مظاهرات احتجاجية جماهيرية واسعة لم تشهدها أمريكا منذ مدة طويلة. ومع ان التظاهرات قد توحدت تحت شعارات معارضة للعنصرية والفاشية فهي تعبر في الوقت نفسه عن احتدام التناقضات داخل النظام الطبقي الرأسمالي الأمريكي خاصة والعالمي عامة. فالظاهر على السطح هو الحركة الاحتجاجية التي نشهدها والتي اطلقت شرارتها السياسات الحكومية للرئيس الامريكي الجديد ، لكن الأهم والأكثر عمقا وخطورة هو ما يجري تحت السطح من صراعات بين الرأسماليين ذاتهم حول المصالح الاقتصادية والأرباح.
 
بدا ذلك واضحا في الانقسام الحاد داخل نسبة ال 1% من المجتمع الامريكي ذات الثراء المطلق الذي ينتمي اليه معسكر هيلاري كلينتون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي من أصحاب البلايين في الوول ستريت من أمثال البليونير الأمريكي من أصول هنغارية جورج سوروس والامبراطوريات الاعلامية التي تعبر عنها صحف الواشنطن بوست ونيورك تايمز والقناة الاخبارية سي أن أن.  ومن الجانب الآخر حيث معسكر البليونيردونالد ترامب الذي له هو الآخر أنصاره من الحزبين الديمقراطي والجمهوري وشبكة واسعة من الماليين ورؤساء البنوك الكبرى وامبرطورية اعلامية ذات نفوذ هي فوكس نيوز وملحقاتها من قنوات فضائية وصحف ومصالح اقتصادية على مستوى العالم. ولا تقتصر مصالح المعسكرين  الاقتصادية على أسواق الولايات المتحدة  والدول الغربية بل لها امتداداتها أبعد كثيرا من ذلك لتشمل دول أسيا بما فيها الصين الشعبية والهند واسيا الوسطى وروسيا.
 
دونالد ترامب يوهم نفسه ويخدع الامريكيين بشعاراته الجوفاء بأنه سيجعل من أمريكا عظيمة مرة اخرى وانه سيعيد الى الوطن الصناعات الأمريكية كصناعة السيارات التي غادرت الى الدول الأجنبية. لقد غادرت تلك الصناعات الى دول كالصين والهند وبنغلادشت والفيتنام وغيرها من الدول لا لرغبة أصحابها الرأسماليين الأمريكان لتحسين حياة عمال تلك البلدان ، بل لأن أجور العمل هناك هي في مستوى اجور الكفاف العبودية. ان ما دفع الراسماليين الأمريكيين الى تلك الدول هو البحث عن أقصى الأرباح وهذا الحلم لم يكن ممكنا في أمريكا حيث الحد الادنى للأجور في حدود 12 دولارا في الساعة وهو ما يعادل أجور عامل صيني لمدة شهر كامل وتقل كثيرا عن هذا المعدل في دول فيتنام وبنغلادشت وكمبوديا.
 
 هيلاري كلينتون هي الأخرى لم تقدم للامريكيين وعودا بالعسل واللبن ، بل كانت ستقودهم من كارثة الى أخرى تنفيذا لخطط الطغمة العسكرية والمالية لاختلاق الاسباب لاعلان الحرب على الدول التي ترفض الانصياع للارادة الأمريكية كما فعلت في ليبيا عام 2011 وما كانت تنوي فعله في سوريا وايران. هيلاري كلنتون كانت مستعدة لتنفيذ مغامرة شن الحرب على دول نووية كروسيا والصين وكوريا الشمالية. وهي وكثير من أنصارها من المحافظين الجدد اذ يقومون بذلك لايمانهم السخيف بأن للولايات المتحدة الحق في محاربة أية دولة تشكل تهديدا لمصالحها الاقتصادية.
 
خلال التاريخ الماضي حققت الرأسمالية تقدما هائلا في وسائل الانتاج تجاوزت به كافة الأنظمة الاقتصادية السابقة ، لكن ذلك انتهى الآن بفعل التناقضات الداخلية ضمن النظام الرأسمالي ذاته. وهذه التناقضات التي نعيش فصولها حاليا لم تظهر فجاة ، بل بعد وقت طويل من التأزم بين حاجات الانسان والانتاج ذاته. لقد جلبت هذه التناقضات معها امكانية حدوث نتائج كارثية طويلة المدى تتحول بتأثيرها قوى النمو الاقتصادي التي كانت ايجابية الى أبعد الحدود تتحول الى قوى سلبية تخريبية في ظل غياب كامل لامكانية كبحها ووقف اتساعها.**
 
حاول الراسماليون الذين شعروا بالنشوة والانتصار بعد انهيار النظام الاشتراكي في تسعينيات القرن المنصرم بث الفكرة القائلة بأن الاقتصاد الرأسمالي قد تجاوز أزماته وهو مستمر في النمو والازدهار. ولقد صدق ذلك الكثير من قادة الاحزاب الشيوعية واليسارية في العالم مما جعلهم مسئولين مسئولية مباشرة عن انحسار الحركة الشيوعية والاشتراكية في بلدانهم واضعاف حركة الطبقة العاملة وضياع حقوقها ومكتسباتها التي تحصلت عليها ابان وجود المعسكر الاشتراكي. النظام الاشتراكي السابق لم يكن تجربة اشتراكية فاشلة كما ادعوا بل كانت تجارب اشتراكية غنية بالدروس ستظل الحركات العمالية في أنحاء العالم تتدارسها والافادة منها حتى اطاحتها بسلطة الرأسمال وأدواته وسياساته لتقيم سلطتها البروليتارية والمباشرة ببناء الاشتراكية. ” الاشتراكية ابعد من أن تكون انتهت وانها ستعود ثانية لتقود العمال والشباب للتضال من أجل مجتمع جديد.***

*-  , 21112016 The Independent , Ronald Paul
**- Istvan Maszaros ,  2007, The Only Viable Economy , monthly Review,
***-  ,What Future Of  Socialism , British Magazine Of The Socialist Party, Lynn Walsh