الأجيال العربية عاشت وتعيش واقعا ترسمه الإفتراءات المدونة المكررة , التي ترسخت في الوعي الجمعي وتحقق تداولها المتوارث , وخلاصتها أنها أخرجت الواقع العربي من طبيعته البشرية , وأضفت عليه خصائص ومميزات لا بشرية , وحولته إلى حالات مقدسة سماوية الطباع والمناهج , وكأن أناسه لم يكونوا بشرا مثلنا , وما أنجزوه معجزات لا تتكرر , لأنها فوق طاقتنا وقدرتنا.
وهذه أكاذيب ملفقة وتدوينات فنتازية ذات نزعات إلهية لا رصيد لها من الواقع في تأريخنا , وإنما كتبها المتخيلون المتوافقون مع إرادة الكراسي , التي عليها أن تبدو فوق البشرية بطبقات عديدة , لكي يتأمن منهج السمع الطاعة , ويتأكد التقديس ويكون الحُكم بأمر الله , والذي في الكرسي يمثل سلطة الله في الأرض.
وما أكثر الروايات الملفقة التي لا يقبلها العقل , والتي تزدحم بها كتب التراث وتكررها الأجيال , دون تدقيق وتمحيص , ودراسة ذات أساليب علمية بحثية رصينة تبحث عن الحقيقة , وتقدم التأريخ على أنه من إنجاز البشر , وليس من صنع ملائكة الرحمان.
والعجيب في أمر واقعنا التراثي , أن الأكاذيب صارت حقائق دامغة ومرجعيات موثوق بها , لأنها قد دونت وأعتمدت في المدونات اللاحقة , وإنتشرت بين الناس , وتحدث بها رموزها وخطبائها على المنابر وفي كل جمعة.
وما عاد من السهل مواجهتها والكشف عن زيفها , لأنها تمتلك رصيدا تكراريا وفيرا , مما يعطل محاولات تفنيدها وردها إلى صدور مفتريها من الذين تاجروا بالكلمة , وتعاطفوا مع الحالات الكرسوية والعقائدية , وبما يحقق مصالحهم ونزعاتهم الدونية.
فلا غرابة أن نجد رموز التأريخ قد صاروا في خانتين , أما مقدسة أو محتقرة , أما آلهة وأكثر أو شياطين وأحقر , وتلك مصيبة تنخر وجودنا , وتشل عقولنا , وتمنعنا من التبصر الواعي المحايد العلمي التوجهات والتطلعات.
وبهذه الأساليب الإفترائية تحقق إستعباد الأجيال , وترويعهم وتخنيعهم , وضمهم إلى مواكب القطيع الراكعة عند أذيال متاجر بما يريد ويرى , ويضيف إلى الأكاذيب المدونة ما يعززها ويزيدها رسوخا في الأذهان.
خصوصا عندما يكون الشحن العاطفي من ضرورات الإستعباد والتهجين , فالإفتراءات مطبوخة بإنفعالية حامية , ومتمترسة في الرؤوس والقلوب والنفوس , ومدرعة بالعواطف التي تؤكدها وتذود عنها بشراسة الوحوش في الغاب.
فهل من صدق فيما نرى ونقول؟!!