18 ديسمبر، 2024 8:22 م

الذكاء العقلي ؟

الذكاء العقلي ؟

غالباً ما ينظر الناس إلى العقل نظرتهم إلى الإرادة و العاطفة بحسابه شيئاً مادياً محسوساً وقابلاً للقياس , وعلى هذا فهم يصفون فلان من الناس بأنه ذو عقل كبير وفلان آخر بأن عقله صغير وفلان الثالث بأن عقله أكبر أو أصغر مِن عقل فلان الرابع وهكذا … والصواب إن ثمة عمليات توصف بأنها ( عقلية ) فهناك مثلاً التفكير والحُكم والمُحاكمة والإدراك والتخيّل والانتباه وسواها من العمليات , وجميع تلك العمليات هي أفعال عقلية أي إنها تتصف بالعقل .

فليس ثمة عقل قائم بذاته ، كما إنه ليس هناك إرادة مستقلة أو عاطفة مُحددة وإنما هناك أفعال عقلية وأفعال عاطفية وأفعال إرادية . فقد يكون الفعل عقلياً وعاطفياً في آن واحد . كما قد يكون إرادياً وعقلياً في الوقت نفسه وهكذا … هذا مِن جانب . ومِن جانب آخر .. إن الناس ـ ومنهم بعض العلماء ـ كثيراً ما يخلطون بين العقل و الذكاء . والحق إن التفريق بين العقل و الذكاء أمرٌ عسير ، ذلك بأن الذكاء جوهر العقل والعقل ـ أو قُل بدقة أكبر ـ العمليات العقلية هي لُب الذكاء . ولو إننا أعملنا النظر في جانب مِن جوانب الذكاء لوجدناه قائماً على العمليات العقلية مِن أمثال التذكّر والإدراك و الحُكم والقدرة على الربط و الاستنباط والتحليل وغير ذلك مِن القدرات العقلية . ومن هنا كان التمييز بين الذكاء والعقل أمراً اعتبارياً وفيه شيء مِن الافتعال على الرغم مِن إنه مشروع في نظر علم النفس الحديث . العقل بين الوراثة والاكتساب .. إذا صح ما قدمنا لنطرح السؤال التالي : هل العقل مَوروث أم مُكتَسَب ؟ إن هذا التساؤل قد أشغل ذهن الفلاسفة والعلماء والمفكرين منذ أمدٍ طويل ، وهو الآن يشغل بال علماء النفس الذين يتساءلون : هل الذكاء موروث أو مُكتَسَب ؟ وإذا كان المقام لا يتسع للخوض في الحديث الموسّع عن وراثة الذكاء واكتسابه فإنه يتسع على وجه التوكيد للقول بأن الذكاء بوصفه قدرات كامنة أمر موروث ، أما بوصفه قدرات فعالة نشطة فأنه أمر مُكتسَب مِن الاحتكاك بالبيئة والمُحيط والتعامل معهما والحياة الثرة الغنية فيهما . ومعنى هذا إن الإنسان يرث ـ فيما يرث ـ وبشكل فيزيولوجي واجتماعي إمكانات وقدرات كامنة لا بد من أجل ظهورها وتفتحها وتحقيقها مِن الاحتكاك بالمحيط وما في المحيط مِن مؤثرات وحوافز ومُستظهرات . ثم إن هذه الإمكانيات الكامنة الموروثة ليست ثابتة
ولا ساكنة أو مستقرة بل هي ديناميكية ومتحرّكة ومتنامية ، ويتوقف نموها على البيئة وغناها المعنوي والمادي ، فإذا توفر للإنسان دراسة جيدة ومحيط موضوعي ظهرت قابليته العقلية على أحسن وجه ونما ذكاؤه وتقدّم والعكس بالعكس . ومن هنا كانت أهمية التربية الناضجة وفائدة المحيط الغني بعلمه وتحدياته وقدرته على تفتيح القابليات وتنمية المواهب وتشجيع الكفاءات ضروري وحتمي في إضاءة تلك المساحة الذهبية عند الإنسان ( أي الذكاء العقلي ) . والجدير بالذكر إن ذلك التفتح وتلك التنمية وذلك التشجيع يجب أن يتم في سن مُبكرة وبشكل واع ومُنظّم وضمن أطور موضوعية يحدوها الوازع العلمي لكي تُعطي المردود الحسن وبإيجابية عالية . تربية العقل وتنمية الذكاء .. وكنتيجة لما قدمنا كله إن الذكاء يُربّى وإن العقل يُنمّى وإن القدرات تفتح والقابليات تشجع على الظهور و النمو ، وإن واجب المؤسسات التربوية كالبيت والمدرسة والأندية الثقافية والرياضية وغيرها أن تعمل على ذلك بشكل واعي وتبذل الجهد من خلال الإصرار الدؤوب على تحقيق أعلى النتائج وأحسنها دوماً . ويبقى السؤال البسيط في مفهومه والكبير في معناه إلا وهو : كيف نربي العقل ؟ وكيف ننمي الذكاء ؟ عند أطفالنا ومن يعهد إلينا بتربيتهم ، وكيف نحن أنفسنا نقوم بذلك ؟ وقبل الإجابة عَن هذه الأسئلة أود أن أنطلق أولاً مِن منطلق التأكيد على وجوب الإيمان بإمكانية هذه التنمية … 
وإن أي فلسفة تربوية تعتقد بأن الإنسان يولد بذكاء محدود وعقل ثابت فلسفة جديرة بأن تفشل في تنمية الذكاء و تربية العقل . ثانياً التأكيد على إن تنمية العقل وزيادة الذكاء يجب أن تبدأ منذ بواكير الطفولة بل ومنذ لحظة الولادة وأن تستمر . إن هاتين الحقيقتين مؤكدتين ، وعلى كل مُرب ـ أباً أو أماً .. معلماً أو مرشداً ـ أن يؤمن بذلك إيماناً قوياً لأنهما حقيقتان علميتان . ثم أحب التأكيد على إن تربية العقل وتنمية الذكاء تقومان على أساس مِن تشجيع المُتَعلّم على أن يَتَعلّم بنفسه ولنفسه مُستعيناً بكل الوسائل التي قد تتوفّر للمُتَعلّم مثل الكتاب و الصُحُف و المجلات ووسائل التكنولوجية الحديثة في الاتصالات و الميديا والشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) ومواقع التواصل الاجتماعي والمتاحف ودور المسرح والسينما و النوادي الثقافية وغيرها مِن الوسائل . وختاماً للحديث أنوه بنقطة واحدة ومهمة هي أن المدرسة ليست إلا مكاناً واحداً مِن أمكنة التعليم ، الذي يمكن بل ويجب أن يتم في البيت و الشارع و المعمل و المزرعة ومحل العبادة والنادي والملعب وغيرها مِن أمكنة الوجود والتواجد في الحياة المحيطة بنا ، فلا نتذرّع بأن التعلّم يتم فقط ضمن نطاق التعليم الصفي ، وبالتالي نُضيّع على أبناءنا فرص التعليم المُتاحة ضمن جوانب الحياة المًتعددة .