لماذا الذباب والزمرد وليست ثنائية أخرى، قد تقترب وقد تبتعد بقصدية أو دونها عن المألوف؟ دونما حصول جفوة في الحمولة والشساعة في المعنى وضبط إيقاع العمل المرتكن على حدود قد تكون متأرجحة من القبول، لخلق نوع من المصالحة بين ما للعنوان من وظيفة تخدم العمل، وما تكتنزه الرواية من عوالم لا يعرفها القارئ الذي لا يملك أدنى بيّنة عن الكاتب،أو عوالم الحدث، ليؤسس منحى تراتبيا، تختنق من خلالها الأسئلة في دواخل المتلقي، ليكتشف ما لهذا الاختيار من مرجعية تخص الكاتب وحده دون سواه، ولكن لا بمعنى الحرية غير المؤسسة على نوايا احتفالية، تعتمد على السرد فقط، وتنتصب داخل العمل على أسس رصينة، بثلاثية السرد والسارد والمسرود له، وقد نقحم ركنا رابعا وهو المسرود عنه، زمنا ومكانا وشخوصا وأحداثا، كلها تختلط في فضاءات لعلها ليست وحدها من ابداع مخيلة الكاتب، ولكن العصيان المعيشي، ولفحة الضيم، ورهبة الخوف، وبعض الاشراقات الحياتية، التي سرعان ما تخبو إزاء المحن، وما سواها من محفزات للعمل، كلها تشكل الدافع لعملية الخلق والبناء الروائي، تؤسس لوشائج تربك القارئ وتدفع به للتساؤل بندية معرفية، إن كان الروائي، وهو بهذا القدر من امتلاك ناصية العمل، لأحداث لا يمكن مطاولتها أو الاقتراب منها، لما تعج به عوالم الرواية بالغرائبية، لكنها ليست دون حالات قائمة يمتزج فيها الواقع، بقدرة الكاتب على الخلق حين يجمع كل هذه العناصر المكونة للعمل، ليخلق لقارئه ثيمة يختزل فيها جهدا، قد يتوزع على بياض لا يمكن أن تنهيه قراءة واحدة في جلسات من المؤانسة السوداء، لأن القارئ أمام عمل لا يمكّنه من امتلاك قدرة القرار والانصهار داخل تسلسل الأحداث، وهو ممسك بتلابيب هذا المنتج المتفرد لروائي موهوب، مثل عبد الكريم العبيدي، الذي أعترف بريادته للعمل، أنا كقارئ لأعمال قد تتوزع في كل تفاصيل القراءة العاشقة، من أمكنة وأزمنة وحالات وحراك وانتقالات، وأحيانا كثيرة من انكفاء على الذات التي لا تريد أن تكون جزءا من سوداوية الأحداث هذه، لئلا تعتريه (أي القارئ) حالة هستيرية من الخوف، مثلما أسميتها مؤانسة سوداء، فهل يجوز لنا هذا التوصيف ونحن ننتقل من حالة رثة إلى أخرى أكثر عطنا،وبؤسا،وروائحا تغم النفس، لأمكنة وحالات محايثة مع الأنساق السيكولائية، صراعا ووعيا اجتماعيا واهنا، وكأن للروائي نوايا مبيتة لتصفية حسابات مع قارئه، فهل هناك أكثر من أن يتبرز المرء على نفسه، مثلا، ما أن يداهمه القتلة بالسياط، وهو يعرف بأنه ذاهب لرحلة لا عودة منها، فلا يتمالك نفسه، فيعملها وسط ثلة الجلادين وداخل عربتهم، وهو بهذا الاحساس المفرط من الضيم،يتحول في نظر (الرفاق البعثيين)،الى كونه مجرد عفونة لا أكثر، وهم في الواقع أكثر عفونة وأنجس من النجاسة ذاتها، فكيف تمت المقارنة، ليتحول النقاء الى مزبلة، والمزابل إلى ضوع مغشوش، هكذا كان الظلم الذي لحق بأوسم، الوديع والمثقف، الأمر الذي ظل هذا الحدث الممض يلازمه ليسبب له حالة من انفصام للشخصية وسوداوية قاتلة، لا خيار أمامه إلا أن ينتهي به الأمر إلى الانتحار، انقاذا لماضيه وتخلصا من الذنب الذي بقي يلاحقه حتى ينهي حياته بتلك الطريقة المأساوية، والتي ذبحت أمه قهرا، وخلخلت دواخل صديقه الكاتب، ليستسلم للآتي من المحو كيفما كان، بعد أن خسر كل الطيبين من الأصدقاء والأحبة، بشير، داوود، أزيريه، الشماس، وغيرهم، مرورا بالذين علقوا على أعوادالمشانق من الأبرياء، وسط خيانات وضعة البعض، وحتى الأمكنة لا تختلف عن أقبيةودهاليز موت، بأنتظار الأجل المحتوم، كانوا موزعين بين الشقق الرثة، والمقابر اليهودية المهجورة، والقفار المظلمة، وأرصفة الشوارعالحزينة وغيرها.
(إن الصعوبة لا اثر لها في سجل رجل دائم الهزائم مثلي، رجل بائس، بارع في النكسات والمحن) الرواية ص10.
هذه هي حال الكاتب التي لا تسر صديقا ولا حبيبا. لتنسحب كلها على بقية شخوص الرواية، قدر لعين يلاحقهم في كل تفاصيل حياتهم، وخوف دائم من الآتي من المفاجئات، حتى عاد المرء، لا يملك قرار عيشه، وبأن الموت يزحف نحوه في كل لحظة.
(نحن نعوم يا أزيريه في منهول مستهلك… نمضي نحن بخفة نحو ظلمات العصور الوسطى) الرواية ص10.
هكذا بلغت بالعراقيين الأوضاع وهم يعانون كل أنواع المهانة من أنصاف البشر والقتلة العتاة الذين صادروا إنسانية الناس وحولوهم إلى مخلوقات، تعيش وتتنفس وتتحرك وتمارس الحياة باشارة من مجرمين قتلة بمسميات الوطنية والحفاظ على كرامة الأمة.
(شهور عصية مرّت على غصة الغزو، ثم تبعتها سكرات الهزيمة الخانقة وأنفاس الانتفاضة ونهارات القمع) الرواية ص11
صور ممزوجة بالمكابدات والأذى والحسرات لانتكاسة الأمل من نجاح أنتفاضة العراقيين الأحرار التي كانت بمثابة التصويت المباشر لرفض نظام الفاشست القمعي، وما تبع ذلك من فصول إبادة مخيفة.
إن الروائي بهذا التناول،يبحث عن متابع من نوع خاص، قارئ بضوابط صارمة، تخضع لمسارات غير مألوفة، بمثابة عربة بلغ بها العمر عتيا ، لتأخذك قسرا ودون سابق انذار لعوالم يختارها هو، ويقتص منك بمحبة الباحث عن أنيس يخفف عنه متاعب اللحظة الولودة، إن كانت تلك العوالم تعنيك، وتريد أن تقترب منها وأنت المحمل بفضول الراهن المقيت بكل بلاويه ومآسيه المرعبة، ما كان يحدث في زمن مظالم أفلّتّ منها بقدرة قادر، لتعرف ما الذي حدث للبشر هناك، وكيف مرت المحن، والقسوة البهيمية، والموت المجاني، وانتهاك حرمة الجسد، واعتبار الانسان في تلك المرحلة المخيفة، مجرد ذبابة، يمكن سحقها في أية لحظة، ولكي يوثق الكاتب هذه الأجواء المرعبة، خارج حدود المنطق للحدث، يوزع الشخوص بمهنية الناقل الذكي بعين راصدة لمسلسل الأحداث بحساسية شديدة الدقة، وبحسابات قد تكون موضوعة على طاولة التناول، بنية توثيقيةلمن يريد أن يدون حدثا بأمانة وحرص شديدين، ولكن برداء ابداعي محكم الأدوات، وكأنه أمام مهمة مقدسة لا يريد أن تفلت منه التفاصيل، لأن توثيقها يعتبر إدانة للقتلة، ووفاء للصحاب، وتكريما لذويهم، لتصبح تأريخا للاجيال القادمة، وهنا بظني يكون الكاتب قد تفوق حتى على الأكثر حرفية من سارقي اللحظات النادرة، لتدوين ما حصل، لندرجه نحن المستفيدين من الاطلاع على تفاصيل الصورة بكل بلاويها وقتامتها، ضمن محترفي الفن السابع، في خلق لقطات تسجيلية حية وليس فيلما واحدا بثيمة يتيمة، ولكن بطبق شهي تزينه الموضوعات المختلفة، ليخرج لنا حالات معاشة، بلمسات العارف بطريقة الاقتناص لهذه الصور المتحركة أمامك بكل بشاعتها وتقززها،ليسقط عليها موهبة في غاية الحرفية والتفنن في تراتبية الحدث والدخول في عوالمه من منافذ عصية على كشف أفعال لرفاق (هكذا كانوا يطلقون عليهم)، مبتذلين،من جلادين ورجال أمن قساة، وفاسدين قيما وتكوينا،رعاع لا يعرفون الرحمة، رفاق فيما بينهم، وأعداء لسواهم، ولكن بإنتهازيةإنتماء، سرعان ما يتركون كل متاعهم على الأرض وفي اقبية الموت وسعير المحارق التي خلقوها هم، وينتزعون جلودهم ليستعيروا جلودا اخرى، ما أن يهددهم زلزال أو هزة تمسحهم مسحا، هكذا هم الطغاة والجلادون في كل تاريخهم الممتد من التراب إلى التراب، نسميهم نحن العراقيين، (خنيثين خبيثين)، ولنا في رئيسهم الذي ظل يلعلع صوته لعقود متبجحا بشتى صيغ الوطنية والبطولات القومية الجوفاء، ليتحول بين ليلة وضحاها إلى فأرة قذرة، ديست بالأحذية المتربة، وتم رميها في مزبلة الأوباش.
فلماذا كل هذا القتل؟ وهذا التعذيب؟ وتلك الملاحقات؟ والمقابر الجماعية؟ وإنهاء حياة الأبرياء بالكيمياوي؟ والجعجعة الفارغة؟ والحروب الحمقاء؟ والمقامرة بمصير وطن؟ وقهر شعب لا يستحق كل هذه المحن والعذابات؟ وأنهار الدماء البريئة، وأخيرا فروا مثل أفواج الجرذان النتنة، إزاء أول امتحان لهم؟
(أنظروا إلى صورته، التفتواوأمعنوا النظر إلى صورة سيدكم يا معشر عبيد نيرون، إنه يبتسم، أتدرون لماذا؟ لأنه يراكم ذبابا، ولأنه يثق بما تعكسه بلورة الزمرد) الرواية ص61
هكذا يتكرر ذات المشهد حين كان نيرون يشاهد مصارعة عبيده من خلال بلورة الزمرد، ليصبح طاغية العراق نيرون العصر وهو يتلذذ بقتل العراقيين من هنا جاء توظيف العنوان ليخدم العمل الروائي، ويحل اللغز المحير في اختيار العنوان، بأبعاد واحالات واوجه متعددة.
إنها (سيمفونية الغروب) حيث يساق المحكوم عليهم بالإعدام كل غروب للمقاصل، لاعدامهم، ولا نعرف لماذا الغروب تحديدا؟
(كانت تلك هي مهمة الفريق الطبي الخاص، قلع عيون المحكومين بالإعدام حال تنفيذ العقوبة بهم ونقلها إلى بنك العيون في مستشفى إبن الهيثم، حفلات سرية لا يعلم بها المعدومون الحالمون بدفئهم من قبل ذويهم… ولم يخطر ببالهم أن جثثهم تدفن بلا عيون، أو أن عيونهم ستباع بصفقات سرية تعقد بين أطباء العيون والمرضى من عراقيين وعرب ليصل سعر العين الواحدة إلى مائتين وخمسين ألف دينار…) الرواية ص125
أي هول هذا؟ تاجروا بكل شئ، الوطن والأرض والناس والأعضاء البشرية، وتأريخ بلد؟ لم يتركوا وراءهم غير أرض محروقة وشعب ثلثاه مقهور، وثلث مشرد في أصقاع الله الفسيحة، كما توعد يوما طاغية العراق بهذا، وأوفى بوعده.
فطوبى لهذه الأمة بهذا الفصيل القومي الذي لا زال هناك من بعض العراقيين وكثير من العرب من يصفق له ويترحم على قتلاه من الأوباش.
(حاول الانفلات من ذاتيته المغلقة وشرع بمطالعة وجوه مصفّرة وعيون غائرة لكائنات حلّت بها لعنة الملاحقة والاضطهاد، وغدت خائنة وعميلة ومجرمة بسبب طنين ذبابة واحدة دنت من هالة الزمرد) الرواية (ص110)
هنا يتضح كيف للعنوان أن يشي بالكثير من المعاني، وما آلت إليه حياة العراقيين من وجوه دائمة الاصفرار خوفا ورهبة من يد الجلاد الزاحفة نحوهم، دونما ذنب ارتكبوه، وهم بهذه العيون الغائرة رعبا وهلعا، فهل هناك أمضى وأمر من هذه الحالات لتغييب الناس لأتفه الأسباب، لمجرد أنهم محض ذباب يسهل عفسه كما يريد القتلة، بعد أن تعكس حالاتهم المرتعبة هالة الزمرد بيد الطاغية.
للأنثى حضورها القوي في الاحداث: ليديا حبيبة أوسم، بلقيس، فيفيان، جانيت وغيرهن، إضافة إلى مطربين بصراويين لم نكن نعرف عنهم شيئا، ويعرّج الكاتب على فنون الموسيقى العالمية وأنواع الرقص العالمي، مما يدلل على موسوعية الكاتب ودرايته بشتى انواع الفن والموسيقى ليعطي للرواية نكهة خاصة وقيمة إبداعية كبيرة، وهو بهذا التوظيف البهي يسقط هذا التناول على مرارة اللحظة التي يعيشها هو واقرانه، ليمنّي النفس بالبحث عن منافذ للخلاص من هذه المحنة المتعاظمة.
عنوان الرواية (الذباب والزمرد) بهذه الثنائية المتنافرة، بحد ذاتها تشكل للقارئ اشكالية أولى وحيرة، لأنه يحمل أوجه إحالات كثيرة، فكان الروائي عبد الكريم العبيدي موفقا حقا بذات الاختيار، ليخرج عن المألوف القائل: (أن الكتاب من عنوانه) والعنوان هنا يتأرجح بين هذا المعنى وذاك، بثنائية ذكية الاختيار.
يرى دي سوسير (أن النظام اللغوي هو نسق إثاري على علاقة الإختلاف بين الثنائيات المتعارضة)
وهذه الثنائيات تمنح النص تحليلا لغويا أو بصريا بإحالات دلالية:
فالعنوان الذي أمامنا يقارن بين الذباب لما له من صفات ذميمة ومقززة، والزمرد لما له من قيمة وحظوة وأهمية كبيرة.
إنما حين نلج متون العمل نرى أن التوظيف الفطن هذا له معنى مغايرا تماما للمألوف، ليفتح الروائي منافذ كثيرة وذات صيغ متعددة لهاتين المفردتين المتنافرتين، لا كمن يقارن بين الحياة والموت، ولا بين القبح والجمال، ولا بين الخيانة والوفاء، وهلم جرا، لأنه ببساطة يعرف جيدا حين إختار هاتين الكلمتين المتناقضتين معنى وقيمة، أن الاشتغال على العمل من هذا الطراز والذي، اعتبره أنا شخصيا أمانة كبيرة ومسؤولية إبداعية واخلاقية لا تخلو من المغامرة، ليتحمل عبئا إضافيا يتطلب حرصا شديدا في موائمة النص مع عنوانه.
ولعل قارئا فطنا يسأل لماذا هذه المقارنة بين ذباب وزمرد؟ وما القصد من هذا الاختيار؟ وكيف تناهى لفكره هذا التوصيف النبه؟ وهل أن الكاتب يشاكس القارئ بهذا العنوان؟ أم أنه يريد وبطيبوبة المبدع الرصين، اشراك متلقيه بخلق عوالم هذا العنوان الملتبس نسبيا؟
مجموعة من الاشكالات يسببها الكاتب، للمتفحص للوهلة الاولى للعنوان، لتنتفض في ذهنه اسئلة مشروعة، قد تخلخل المتابع، ليظل مستفزا، وهو يلج عوالم الرواية، بانتقالاتها المتقنة الحبكة والسرد واللغة والفطنة المستدركة لطبيعة العمل، لنكتشف وبثقة المتابع الجيد، أن الروائي عبد الكريم العبيدي، قامة ابداعية بكل ما لهذا التوصيف من معنى، فكم أذهلتنا وشدتنا بقوة، الانتقالات للأحداث بشخوصها وأجوائها وتفاصيلها، وبلغة وصفية لسارد يمتلك من التراكم المعرفي في فن الرواية الكثير، وموسوعي في اللغة والمفردة الروائية المغايرة للمالوف، كونها على قدر هائل من الاقتناص المتفرد، وكأني بالمبدع العبيدي على جانب لافت من الصرامة اللغوية بمداراة حبيبة، وكأنه يراود لغته ويخلق منها رديفا للمؤانسة، ليضفي على العمل متعة كبيرة، ولذة قراءة انتشينا بها جدا، وقبل هذا وذاك، المقدرة على انشداد القارئ للحدث، ليحسب اللحظات بما تؤول اليه الاحداث بايقاع المتلقي في هذه الاحبولة من خلال شحن الاحداث بغرائبية التوظيف، وهذه من سمات الكتاب الكبار، لما تحتويه الرواية من تنوع هائل وانتقالات في السرد، وبلغة محكية تتضمن العديد من المفردات العراقية الدارجة، تقتصر على اللسان البصراوي، الأمر الذي جعلنا نحن من غير البصراويين، نتعرف على مفردات دارجة، لم نكن على دراية بها.
مع ذكر شخصيات بصراوية لها حضورها الطاغي، كونها كانت علامات من تراث المدينة الخالدة: ياشنكر لال الهندي،وكاظم ابو الباصورك وزرزور ابو الحب ومالو الاطرش وتومان العبد وجاسم أبو السفرطاس، ويقينا أن لكل واحد من هؤلاء حكاية يتندر بها البصريون ويشكلون جزءا هاما من نسيج المدينة العريقة التي استباحها القتلة.
لا اعرف لماذا، وأنا أتابع الحكي والحوارات، قادتني هذه الرواية، أو في بعض من فصولها، لعوالم الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، وخصوصا في رواية (شرق المتوسط)، لكن خصوصية رواية المبدع عبد الكريم العبيدي، تزدحم بالأحداث والحالات الانسانية وتنفرد بشكل خاص في حجم العذابات التي كان يعانيها العراقيون وخصوصا المثقفون منهم، بشرائح مجتمعية، وكأنها توليفة وطنية انسانية رائعة، لمسلمين ومسيحين ويهود، من قتلة ودمويين، ووطنيين أحرار، وفاسدين قيما وسلوكا، ومناضلين عنيدين، من أناس وديعين، وخونة خائبين. طبق روائي شهي يضاف الى الابداعات العراقية الاخرى لروائيين كبار: محمد خضير، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي وغيرهم، من أعمدة الرواية العراقية ورموزها.
إن الكتابة الإبداعية بكل أجناسها المختلفة عموما، والروائية على وجه الخصوص، هي حرفة تتطلب مهنية وقدرة متعددة الكفاءات والمسارب، بلغة خطاب غير متداولة وبتخييل يحيل اليومي الرث إلى عوالم بهية وفاتنة، مع الحرص على وحدة الموضوع واللغة والتناول، بمهارة الكاتب الموسوعي العارف بدهاليزها وأحابيلها ومطباتها أحيانا، لتعتلي بقوة متشبثة بعناصر أساسية وهامة تلك هي: الزمان والمكان ووحدة العمل، مع توظيف استيهامات تعتبر تأثيثا لا بد منه لاشغال فضاءات السرد، لنقول أننا أمام عمل فارز وهام، وهذا ما لمسناه بحق من خلال قرائتنا لعمل المبدع عبد الكريم العبيدي.
يقول الروائي الكبير وليم فوكنر: (إن الكاتب بحاجة إلى ثلاث أسس لإمتلاك معارج الكتابة وهي:
* الخبرة
* والملاحظة
* والخيال)
دون أن ننسي أداة الخطاب الأساسية وهي اللغة، مع صرامة المراجعة، وهي مقياس أساسي لنجاعة العمل، والعمل الروائي إذا ما أحترم هذه المعايير يكون قد امتلك ناصية التحدي، وهنا يمكن أن نقسّم المنتج الروائي إلى حالتين هما:
روائي يعتمد على التخييل من ألف باء العمل حتى يائه، أحداثا وشخوصا وتناولا وانتقالات، وحتى لغة.
وآخر يقتنص أحداثا معاشة ويحيلها إلى عمل متكامل العناصر بإضافات من خيال وموهبة الكاتب، واضافات يحيّنها في لحظتها بطريقة إبداعية، ليسمو به من الراهن إلى معارج الكتابة بلمساتها الإبداعية والتي تناى أحيانا عن صلب الحدث، وتقترب أحيانا أخرى لتقريبه لإدراك المتلقي، مع مراعاة شديدة الحرص على ثيمة الموضوع، إن كانت تحتمل السرد المكثف وغير الممل أو الحوارات بانتقالاتها الوصفية، بسطوة الشخوص ونجاعة الاختيار.
يقول كلود ليفي شتراوس: (إن النظام اللغوي يعمل ككل ضمن سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة، فالمعنى ليس كامنا في الإشارة ذاتها ولا حتى يضاف إليها، إنما هو أمر وظيفي يتجدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه).
هذه التوليفة الشديدة الالتحام والعصية على التفكيك ليست في متناول من هب ودب في العمل الإبداعي الرصين والمالك لقدرة التواصل مع الآخر، والساعي لحفر أخاديد غائرة في شخص المتابع، وهو بطبيعة الحال، متلقي من نوع خاص وبمواصفات تسعد الكاتب وتمده بقدرة العطاء والتجدد، لانه ببساطة أمام ند عصي على المهادنة، وعليه ينبغيأن يكون حريصا وقاسيا على العمل، بالمراجعة تلو المراجعة، دون تكاسل أو ادارة الظهر للعمل بدعوى أنه أنجز ما مطلوب منه، إنما الترميم والمتابعة من كل الزوايا تمنح العمل فرض وصايته على المتلقي وبالتالي تسمو بالكاتب إلى مراتب عليا من العطاء والتجدد.
إن رواية (الذباب والزمرد) تجربة فريدة ورائدة لتوثيق ما مر بالعراق من محن، مطلوب من كل المبدعين العراقين في هذا الجنس الإبداعي أن يدلو بدلوهم أسوة بالمبدع عبد الكريم العبيدي، لنتمكن نحن المتابعين وبلهفة المنتظر لهكذا اعمال، أن نشد على أيدي الكتاب ما أن يعملوا على توثيق ما حصل، لنخرج بمشهد لجنس الرواية العراقية، المشهود لها بالعطاء والتجدد والأمانة.
لا يسعنا إلا أن نبارك للمبدع عبد الكريم العبيدي بهذا الجهد الفني الفارز، بعد أن منحنا وقتا ليس هينا من المعايشة والمحايثة والتداخل مع ذاته الكاتبة والتي نتوقع أنه عانى الكثير من العذابات لأخراج هذه الحلة الباذخة. له منا أجمل وفاء
وبانتظار هبّة عطاء قادمة وليست عسيرة عليه وهو بهذا البهاء والتجدد.
الرواية تقع في 152 صفحة من الحجم المتوسط صدرت عام 2011 عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع يتصدرها غلاف جميل ومعبر من تصميم وإخراج دار صفحات.