في كل الدول المدنية والتي تتمتع بواقع متواضع من الحياة المعاصرة والتمدن ومواكبة الحداثة وتجلياتها, والتي تتماشى مع معطيات القرن الحادي والعشرين, نجد إن الدستور هو شرط أساسي لنجاح الدولة ورفاهية المجتمع بما هو الآلية التي تنظم العلاقة بين الدولة والشعب, وبناء منظومة من العلاقات الإجتماعية وبناء دولة مؤسسات صحيحة تعكس مسار العملية السياسية الديمقراطية البناءة, فما مدى ذلك التحوّل على الدولة الخارجة من أتون حرب أهلية والناشئة فوق تراكم استبدادي قديم, وديمقراطية شكلانية مجوفة.
ففي العراق شيدت ملامح المشهد السياسي بناءاً على الدستور المؤقت الذي جاء ثمرة جهود متوافقة بين الأحزاب السياسية القادمة من صف المعارضة إلى صف السلطة وبين قوات الأحتلال بحاكمها المدني وقتئذ, وقد تمت الموافقة عليه باستفتاء شعبي عام باركته سلطات الحاكم المدني وجمع الأحزاب السياسية التي استلمت مشروع السلطة بعد إسقاط نظام صدام 2003, ومنذ ذلك الوقت وموضوع الدستور وتعديله وإلغاءه, وتقنينه بدأت تلوح في أفق المشهد السياسي, خطاباً, وتصريحاً, للسلطة وللمعارضة, للحاكم والمحكوم, حتى أصبح الدستور هو الكلمة أو المفهوم الأكثر تداولاً في الأوساط العامة, بل إنه يتداول أكثر حتى من مفهوم السلطة والحكم والديمقراطية التي أحبطت عزيمتنا, فكلما استشعرت فئة بالغبن واستلاب حقها شككت بالدستور وطالبت بإلغاء هذه الفقرة أو تلك, وكلما ادركت طائفة او شريحة ما بإنها محتاجة لكذا فقرة رفعت الأيدي داخل البرلمان وعلى منبر خطب الجمعة أملاً في تحقيق مكاسب ضيقة على مستوى حجم الطائفة والحزب, الكل هنا يُريد دستوراً متوافقاً تماماً مع مصالحه حتى ولو على حساب مصالح الأخرين الشركاء في الدولة والمجتمع.
وكأن الأحزاب والنخب السياسية تريد دستوراً, كالمطاط يمتد وينكمش كما تتطلب المصلحة الحزبية ذلك, يوافق رغباتها وطموحاتها الحزبية دون ان تكون لمصلحة الوطن العليا أية اعتبار (!), فالمعارض للدستور بالأمس تجده اليوم في الخط الأول من المطالبين بالالتزام به, والذي كان يدافع عنه ويعتبر نفسه حامي الدستور ينقلب اليوم عليه, وهكذا دواليك, بل وأصبح الدستور غاية دون أن يكون وسيلة, وصار حجة, مثل كرة النار المستعرة واحدٍ يلقي بها على الأخر.
إن ما يجمع اطياف الشعب العراقي بتنوعاته ليس الوطنية ولا المواطنة وحقوق الإنسان ولا الحريات العامة كمؤشرات للتنمية السياسية, بل إن ما أجمع عليه العراقيون اليوم هو اختلافهم على الدستور, لدرجة جعلنا نتهكم سياسياً, ونحاول حل مشكلة الدستور عن طريق تشكيل وزارة اسمها “وزارة الدستور” أو “وزارة الدولة لشؤون الدستور وهفواته” للنظر فيه مشاكله وسياقاته واخفاقاته, وتحقيق سبل إنجاحه ومواكبة لمواصفات الأحزاب السياسة الحاكمة وللمعارضة سواء بسواء, كون الدستور أصبح مشكلة العراق اليوم والعقبة التي تقف في وجه أغلب المشاريع التنموية والحضارية, كلما اعتزمت طائفة ما من طرح مسألة حاججتها طائف أخرى بالدستور وهي تحمل نسخة فوق رأسها, كالذين حملوا المصاحف فوق الرؤوس, زوراً وبهتاناً, والعلة ليس في الدستور وإنما في مشرعي وحُماة الدستور أنفسهم لأنهم كتبوا بنوده في ظل ظروف استثنائية قاهرة متمثلة بتواجد قوات الأحتلال الأمريكي وقتئذ, ونقص السيادة, والعجالة في كتابته وتدوينه, ولم يتناول كافة الجوانب, بل ترك ثغرة موجعة صارت مدخل شرعي وقانوني متاح للسلطة الحاكمة من التلاعب بنصوصه.
فاليوم انقلبت النخبة السياسية على السلطة, وعلى الدستور برفضها التداول السلمي للسلطة, كما رفض المواطنة والتعددية الحزبية والدينية من قبل, وبالأمس انقلب الأخرون, وكأن الإنقلاب على قيم الدستور وسيلة وسلاح بيد الشركاء والفرقاء السياسيين, وكأن الدستور العراقي اليوم هو أشبه بقميص عثمان الملطخ بالدم, الكل أشتركت في قتله, والكل يطالب بدمه, وهذه هي اللعبة الخفية والتوظيف السلبي لأسس الدولة ولموحيات الدين في الدولة, فالذين قتلوا عثمان لا يحق لهم أن يطالبوا بدمائه, بمعنى إن الذين صوتوا للدستور ودافعوا عنه بكل إخفاقاته وثغراته, وهفواته بكل ضراوة لا يحق لهم اليوم المطالبة بالانقضاض والانقلاب عليه وإغتياله, أو التحايل عليه, حتى لا نوقع في فتنة أخرى بزّي عولمة دينية عصرية جديدة, وعلى الجميع الذين قبلوا بالدستور الإلتزام به, أو تغييره واستبداله بدستور لا يكون إلا بالإجماع السياسي للوطن, .. لكن للأسف كان قادة الأحزاب والسياسيين اليوم هم كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض, متى ما رأت المصلحة الشخصية والفردية في ذلك, توافقاً مع نزواتهم الحزبية دون النظر للمصلحة الشعبية والعامة للوطن.
فلا يجب ان يكون الدستور قميص عثمان, الكل شاركت في المَقتل والكل تباكت عليه مناحات كربلائية أو أموية!