لقد انزل الله الاديان السماوية لتكون رحمة للناس , لتخرجهم من منطق الغاب الذي كانت تعتنقه الشعوب القديمة. فجميع الاديان ابتداء من اليهودية والمسيحية وانتهاء بالإسلام احتوت على نصوص مقدسة تحث وتأمر الانسان على اشاعة السلام والمحبة وعدم الركون الى العنف والحث على احترام عقيدة الاخر كقوله تعالى ( الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وقوله تعالى ( أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) .
ان تطبيق النص على ارض الواقع هو المعيار الوحيد لمصداقية الدين وقدرته على الحياة ولكن وللأسف التطبيق العملي لهذه النصوص كانت ولم تزل في واد اخر قاحل ومجدب تماما من تلك القيم .
فقد فشلت تجارب تطبيق الشريعة بدءا من جماعة الاخوان المسلمين , والثورة الايرانية , فكلا الطائفتين مارستا امتهان منهجي تعسفي لكرامة الانسان وانتهاك صارخ لحياته الخاصة من خلال مصادرة حقه في التعبير عن الرأي والعقيدة . واستخدام سياسة رجم الاخر بالكفر والارتداد عن المله بل وصل الامر الى شرعية القتل والتمثيل بالأجساد والحرق باسم الدين كما هو حاصل الان . حتى صار العنف والدمار والقتل الوحشي السمة البارزة لبلد كان يُعرف ببلد الحضارات والثقافات .
وبالعودة للتاريخ فان الاديان جميعا وبدرجات متفاوتة حملت لواء العنف والقتل . فالمذهب الكاثوليكي كان في العصور الوسطى يعتبر نفسه دائما هو الدين الوحيد الصحيح وما عداه هرطقة وهي تعني الخروج عن تعاليم الكنيسة ومن لا يعتقد بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية التي يقف على رأسها بابا روما فان مصيره جهنم وبئس المصير , وإنها وحدها الفرقة الناجية من الدين المسيحي , ولرأي المخالف لهذه الكنيسة محظور وينبغي استئصاله ومحاربته حتى لو استوجب استخدام القوة ! وعلى اثره كانت الصراعات الدامية بين الكاثوليك والبروتستانت طوال القرن السابع .
ولكن الى حد ما استطاعت النظم العلمانية في الغرب من كبح جماح الكنيسة الكاثوليكية ووضعها في اطارها الطبيعي الخاص بها على اعتبار ان الدين والعقيدة هما خيار وسلوك شخصي لا يحق للغير التدخل . وعلى وفق هذا المفهوم انخفضت وتلاشت وتيرة العنف الديني في اوربا والدول الغربية .
ان فكرة الديانة الناجية و الفرقة الناجية ، هي السبب الاساسي في ظهور التطرف والعنف على مر الاجيال فالتزمت بالنظرة الأحادية ، تثير من الهواجس والمشاكل أكثر مما تعالج , بل تعمل على اعادة معضلات ومشاكل التأريخ أكثر مما تحاول الاستفادة من دروس وعبر التاريخ .
وعلى وفق هذه الرؤية نتج العنف الديني الذي هو ظاهرة خطيرة عانت منها العديد من المجتمعات وعلى مر العصور ولحد يومنا هذا .
ان تدخُل الدين في السياسة قد افسد السياسة وأساء الى الاوطان , كما ان السياسة قد افسدت وشوهت صورة الأديان كممارسة فعلية على ارض الواقع .
ان نظرية الدين السياسي او تدين السياسة هي ايدلوجية سياسية استبدادية بعيدة المدى يتم تسخيرها وتوظيفها في كافة المجالات الثقافية والروحية والاجتماعية والتي غالبا ما يكون ضحيتها البسطاء من الشعب من ذوي التوجهات العقائدية وعلى وفقها ينتج الجهل المقدس كما عبره عنه المفكر الجزائري محمد اركون وهو يعني تكرار و قولبة افكار المجتمع وفق عقائد محددة دون ان يخضعها للتحليل التاريخي , ومن ثم يتحول الى جهل مؤسس والذي يعني استخدام نظام تربوي يؤسس لتلك العقائد بشكل منهجي منظم .
ان احزاب الاسلام السياسي لا يهمها الوطن بقدر ما يهما توظيف مذهبها ومعتقدها الديني في اخذ زمام الامور في ادارة الدولة ومن ثم ادارة سياسة الدولة وفقا لعقيدتها بغض النضر عن العقائد الاخرى والتوجهات المغايرة وبذالك تتحول الدولة وسياستها الى نظام اصولى محدد , والأصولية نظام عقائدي مغلق على ذاته , يعتقد انه وحده يمتلك الحقيقة المطلقة ويسعى الى حسر واستبعاد الثقافات الوطنية لصالح خطاب ميتافيزيقي واحد عبر تحريف فضاءات الوعي الاجتماعي وتفكيك ومحاربة الخطابات المغايرة له وفرض خطاب تداولي ثقافي واحد ينزع الى المركزية في انتاج القول وبلاغة العنف كنظام وأسلوب للهيمنة الايديولوجية .
فالخطاب الاسلامي الاصولي لم يكتف بالنظرية فقط بل خطورته تكمن في موضع التطبيق مما تمكنت فيه اتباع سياسة دكتاتورية تمارس عبرها الغاء الاخر لتبرير عنفها المسلح ذات الطابع الدموي , فقد كانت سورة التوبة وغيرها من الايات القرآنية ملهما لهم كقوله في من سورة الحج الاية 39 والآيات 12 ,13, من سورة التوبة والآية 33 من سورة المائدة وغيرها من الايات القرآنية التي تحض على القتال والتي يرفض الاصوليون استخدام المنهج التاريخي في قراءة وتفسير هذه الايات وغيرها .
ويجب ان لا ننسى ان هذه الايات القرآنية نزلت لأسباب معينة وفي مرحلة معينة من التاريخ الاسلامي وهي فترة الفتوحات الاسلامية في وقت كان الاسلام فيه بدور الولادة والمخاض كان يمثل دين الاقلية مقارنة مع المسيحية واليهودية انذاك فهو بحاجة لإيصاله رسالته لأقوام وأمم تجهل وتنكر الاسلام كدين سماوي مُنزل من الله شانه شان الديانات السابقة من اليهودية والمسيحية , والتي كانت هي السائدة في ذالك الوقت .
الامر الان مختلف عما كان عليه في السابق فلم يعد الان في عصرنا الحالي لتلك الحاجة أي مقومات , خاصة بعد ان اصبح الاسلام عالميا ومعترف به كدين سماوي , ثمة اليوم حاجة اخرى اساسية ، ألا وهي التفاهم والتواصل الحضاري مع الاخر المختلف عنك عقائديا وثقافيا من خلال ممارستك لمبادئ وأخلاق الاسلام .
ولكن الخطابات الاسلامية غالبا ما تلجأ الى استخدام المعجم الديني القديم من اجل اضفاء مشروعية نشاطها السياسي ومعارضتها للأنظمة القائمة وهذا يعني تحول الدين الى ايدلوجية سياسية يفقده روحانيته فتستخدم النص القراني والحديث النبوي من خلال انتزاعهما من سياقهما التاريخي وتلجا الى اسقاطه على الواقع الحالي بما يخدم افكارها وتوجهاتها وتعمل على تجييش الملايين من المسلمين حوله لأجل خلق مناضلين اسلاميين سياسيين .
إن الصرامة العقلية مفهوم وظفه المفكر الأمريكي ميلتون روكيتش، و قد قصد به عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك .
إننا عندما نقرأ هذا التعريف للصرامة العقلية أو التصلب العقلي أول ما يتبادر إلى أذهاننا موقف السلفيين من التغيير فهم يرفضون ما يسمى فقه الواقع ، و يرفضون تغيير جهازهم المعرفي بدءا من اللغة التي يوظفها , فالخطاب الديني الاصولي يعمل على ثنائية واحدة لا غيرها وهي (كافر / مؤمن) ( موحد مشرك )
هذا الخطاب يقوم على اقصاء الاخر الديني او الاخر السياسي او الاخر الثقافي والحط من وجوده التكويني والتاريخي من خلال وصفه ب (كافر، صليبي، جاهلي، مشرك , رافضي ..الخ..) انه خطاب استبدادي لا يقر بالاختلاف ولا يعترف بتنوع الانظمة الثقافية والسياسية والدينية وإنما يكرس اعداء وحروب .
كما ان الثورة الايرانية و( عملية تصديرها ) لدول الجوار ليست استثناء من هذه القاعدة ، حينما رفعت شعارات إسلامية أعطت مبررات إضافية عدائية لأنصار الاتجاه المعاكس . فقد طالب الخميني بتكرار ثورة إيران في البلدان الإسلامية الأخرى كخطوة أولى نحو التوحد مع إيران في دولة واحدة يكون مركزها إيران في المواجهة مع من أسماهم بأعداء الإسلام في الشرق والغرب ومن ثم تحريض الشعوب والتنظيمات السياسية الإسلامية على إسقاط حكوماتها التي اعتبرها ضالعة في تنفيذ ما أسماه بمؤامرات الاستكبار العالمي املا في انتشار ثورة إيران الإسلامية للعالم أجمع حتى تتشكل حكومة عالمية وقد اتفقت معظم الأدبيات الثورية الإيرانية عام 1979 على اعتبار حكام معظم البلدان الإسلامية مثلهم مثل دول الغرب بأنهم يمارسون ((الاستكبار)) ضد شعوبهم، وحث ودعم هذه الشعوب على التخلص من حكوماتهم التي تخدم حسب الرؤية الإيرانية مصالح أعداء الإسلام. وقد انعكست هذه الآراء في الدستور الإيراني , فقد حددت ديباجة الدستور الإيراني – ضمن أهداف الجمهورية الإسلامية – السعي مع الحركات الإسلامية والجماهيرية الأخرى لبناء الأمة العالمية، وإنقاذ المحرومين في كل مكان على الأرض . فضلا عن مواقفها العدائية مع عرب الاحواز ومجاهدي خلق الايرانية .
هكذا تشهد المجتمعات الاسلامية من خلال خطاباتهم الدينية للسيطرة على الخطابات الاخرى مستخدمين قوة التجييش الطائفي السياسي والتي تقود فيما بعد الى تعطش الحشود الشعبية في الاقتتال الطائفي المذهبي كما نشهدها الان في العراق والدول المجاورة .
ان كلا الطائفتين قد تناست او تجاهلت ان الاسلام هو دين الوسطية والاعتدال لا دين التطرف والعدوان ولا اكراه في الدين . إن التفكير في أجواء السلام والتعايش مع الاخر يؤدي إلى نتائج أفضل من الجدال في أجواء الخصام .
كما تناست ان الاسلام دين العقل والتسامح والتفاعل الحضاري مع كل الامم والأقوام خصوصا وإن التاريخ الاسلامي حافل بالكثير من الاحداث والوقائع التي تعكس وحدة المسلمين مع بعضهم , والتراث الاسلامي الصوفي يمتلك تجارب وجدانية رائعة في هذا المجال منها ما بلوره محي الدين بن عربي في مقولته الذائعة : أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني .
وعليه فإن الشرط الأول لنجاح أي حوار وتفاهم ، هو خروج الجميع من القراءات النمطية في النظرة إلى الآخر. فلا يمكن اختزال العالم الإسلامي في جملة من المفردات والممارسات التي تتعارض في العالم الإسلامي الواحد أكثر مما تعارض مع الغرب الغير اسلامي !
وعليه فإننا نعتقد أن شروط الحوار والتفاهم بين مختلف الطوائف هو احترام وقبول حرية الفكر والمعتقد ، التي لابد منها في هذه المرحلة الحرجة للتمكن من التفكير بالحقيقة من غير شروط محددة .
في الوقت الراهن وفي ظل الصراع الطائفي الدموي الذي يشهده العراق لا منفذا للخروج من هذه الحلقة المفرغة التي استنزفت الالاف من الارواح وهجرت الملايين من العوائل وأهدرت ميزانية الدولة و ادت الى ارتفاع نسبة الفقر والبطالة في البلاد , لا خيار سوى اختيار و بناء الحكم المدني العلماني في العراق .
والعلمنة المطروحة ، لا تعني الانحلال الأخلاقي , واستغلال المرأة , كما يتصور البعض أو اباحة المظاهر المريبة اجتماعيا وأخلاقيا التي قد يفسرها البعض الاخر , وإنما تعني ضرورة وجود حيز حر من التفكير المتحرر من عقدة اقصاء ورفض الاخر ، وبناء علاقات اجتماعية وإنسانية على قاعدة الشراكة في الانسانية والوطن ، وليس على قاعدة التمايز الديني أو العرقي أو ما شابه ذلك .
فحين تفقد الدولة شخصيتها فليس بينها وبين نهايتها إلا خطوة واحدة ، وهي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة والأمل. فإذا ضاعت شخصية الدولة ، ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعهم ، فإن كل واحد سيتخذ طريقا مختلفا ، وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة .
ولذالك اقول ان مستقبل الاسلام السياسي ان ظل مستمرا في نهجه هكذا , فان نتائجه ستكون مروعة تقود الشعوب في حلقة مفرغة لا نهاية لها من القتل والعنف والدمار ..
الحرية و العلمنة بمفهومها الصحيح ليست ان تفعل كل شي , بل ان تفعل ما يجب عليك فعله .