23 ديسمبر، 2024 6:55 ص

الدينية واللادينية والإلهية واللاإلهية 2/3

الدينية واللادينية والإلهية واللاإلهية 2/3

كنت في السابق أتصور أن التفكير المطلق، ومنهج دعوى احتكار الحقيقة هو حصرا من ملامح الدينيين بالمعنى السائد للدينية، أي لأتباع الديانات، بينما حتى في فكري الديني كنت أعتمد النسبية، وكنت أحسب أن اللادينيين لا يمكن أن يقعوا في دعوى الإطلاق، لكني وجدت مع الوقت بعض اللاإلهيين من اللادينيين يقعون في نفس خطأ الدينيين، لذا سميتهم باللاإلهيين الدينيين، فهم دينيون أيضا، بمعنى أنهم حولوا فكرة اللاإلهية والإلحاد إلى دين، يمتلك وحده الحقيقة المطلقة والنهائية. بينما النسبيون أو ما أسميتهم باللادينيين العقلانيين، سواء كانوا إلهيين أو لاإلهيين، فيرفضون الدين، والمنهج الديني للتفكير والحوار والاستدلال، لأنهم يعتبرون أن الفكر البشري كله نسبي، بما في ذلك ما يتبنون هم من قناعات، فهي نسبية عندهم، ولذا فهم لا يمارسون ما يسميه أتباع الأديان بالدعوة أو التبشير، إلا بمقدار ما هو ترويج لأفكارهم النسبية، دون أن يكونوا حريصين على أن يتبناها الآخرون، كما يفعل الدينيون من الإلهيين واللاإلهيين. فكلاهما يتمنى أن يؤمن جميع الناس بما يؤمنون هم به، ويُسفّهون ويُسخّفون ويُكفّرون من لا يتبنى رؤيتهم.

أقول بكل احترام لذاك الذي استخف بي، وسفّه أفكاري، واعتبرني مبتدئا، وجاهلا بمعرفة ما هو عقلي، لأني لا أتبنى فهمه هو للعقل، إن العقل في استعمالاتي في هذه البحوث لا كما تتصوره، أو كما تتصور أني أتصوره. أنا لا أعني به جهازا عضويا، كأن يكون الدماغ أو غيره من الأجهزة العضوية، كما إنه ليس بفكرة مجردة، بل هو تعبير عن منظومة من القواعد والقوانين، تشمل الرياضيات والمنطق والفلسفة، مع الفارق بين كل من هذه الميادين الثلاثة في درجة الثبات القانوني، فالرياضيات أعلاها ثباتا، يليها المنطق، ثم الفلسفة. الذي يهمني فيما أستخدمه في التفكير الديني والإلهي، نفيا أو إثباتا، اقترانا أو افتراقا، تلازما أو تفككا، هو الأحكام الثلاثة للعقل تجاه أي مقولة من المقولات، فهي عنده إما واجبة، كوجوب كون الكل أكبر من جزئه هو، وإما ممكنة ككون جزء شيء ما مساويا لجزء آخر من نفس الشيء أو أكبر منه أو أصغر، وإما ممتنعة كدعوى أن الجزء أكبر من الكل من نفس الشيء. وأقصد بـ(العقل) هنا (هذه المنظومة القانونية المعرفية)، وكنت سأقول هذا العلم، إلا إني أخشى أن يفهم منه العلوم التجريبية فحسب، ولكوني أنتمي إلى المدرسة العقلية، التي ترى أن مصدري المعرفة هما العقل والتجربة، وليس التجربة وحسب، كما عند التجريبيين، وقد أرجح تسمية هذا (العلم) – مع التسامح باستخدام مفردة (العلم) – بـ(العقليات) على شاكلة (الرياضيات).