23 ديسمبر، 2024 12:22 ص

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ – الحلقة الأخيرة

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ – الحلقة الأخيرة

الدولاروقراطية
في ظل الديمقراطية البرلمانية ومع إنعدام الضوابط في إقتصاد السوق وتوحش العولمة، تمتلك الطبقة المتنفذة من الأثرياء مفاتيح التحكم، ليس بآليات عمل النظام السياسي فحسب، بل بكل مفاصل الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
مارك هانا ، وهو من كبار رأسماليي القرن التاسع عشر عبر عن فهمه للديمقراطية باستخفاف قائلاً ” للديمقراطية هدفان ، الأول جمع الثروة ، والثاني لم أعد أتذكره ” قاصداً بذلك العدالة الإجتماعية، أما الملياردير الأمريكي المعاصر ” وارن بوفيت” فقد وصف الديمقراطية بقوله” أنها حرب طبقية تنتصر فيها طبقتنا دائماً ” وأضاف قائلاً في مقابلة على الcnn ” إن نسبة ما اسدده من الضرائب للدولة أقل مما تدفعه سكرتيرتي” في اشارةٍ منه لما يتضمنه قانون الضرائب من ثغرات تتيح للشركات الكبرى أو ما يسمى ” وولستريت” بالتملص من دفع الضرائب، فشركة جنرال الكتريك مثلاً لم تدفع سنتاً واحداً كضريبة دخل على ارباحها البالغة 14.2 مليار دولار عام 2010 م .
هيمنة الطبقة المتنفذة على آليات الديمقراطية وتشريعها القوانين التي تخدم مصالحها دون عامة الشعب، قد أثار الكثير من علامات الإستفهام حول جدوى الديمقراطية وحجم الفساد في نظامها السياسي، ومن الدراسات التي نالت إهتماماً كبيراً في الأوساط الأكاديمية والثقافية، دراسة بعنوان ” ديمقراطية أم حكم أوليغاركي” للعالمين مارتن جلينس وبنجامين بيج. الحكم الأولغاركي مصطلح إغريقي يشير إلى الهيمنة الكاملة لطبقة الأرستقراطيين الأثرياء على الحكم وتوظيفه لتسمين ثرواتهم على حساب عامة المواطنين، ومن المفارقات الصادمة أن دخل الأرستقراطي في أثينا القديمة يبلغ 20 ألف ضعف من دخل المواطن العادي، بينما يبلغ دخل الرأسمالي في أميركا اليوم 200 ألف ضعف من دخل مواطنه العادي. قام العالمان في دراستهما بمسح شامل لكل القوانين والإجراءات الصادرة في العقود الماضية ومقارنتها بتأييد أو رفض الرأي العام من جهة وموقف الوول ستريت من جهة أخرى ، فخلصا إلى نتيجة متشائمة مفادها: ” رغم أن المواطن الأمريكي يتمتع ببعض الحريات النسبية كالحرية الدينية وحرية التعبير وحق التصويت وغيرها، إلا أن النظام الأمريكي أوليغاركي وليس ديمقراطياً، فالتشريعات التي تتمتع بتأييد أغلبية الشعب وتعارضها الأقلية الثرية تكاد تكون فرصة تحقيقها معدومة أو ضئيلة جداً، و بالمقابل إذا ارادت الأقلية من أثرياء الوول ستريت تشريعاً تعارضه أغلبية الشعب فإن نسبة تحققه ستكون كبيرة.” ( democracy or oligarchy / Benjamin Paige and Martin Gilens” .
تشير آخر الإحصائيات إلى أن 67% من الشعب يعتقدون أن الديمقراطية قد اختطفت من قبل طبقة الأثرياء، فهم يختارون من يرغبون به للمناصب في السلطات الثلاث بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر التمويل واللوبيات الضاغطة والسيطرة على الإعلام ومصادر المعرفة والتثقيف الموجه ومراكز البحوث والجامعات، وقد أشار الإستفتاء إلى أن 89% من الشعب يعتقدون أن أعضاء الكونغرس ليسوا سوى موظفين لدى المليارديرات “Republic lost / Lawrence Lessig”، أي أن الكونجرس يتمتع بتأييد 11% من الشعب وهي أقل من شعبية الملك لويس السادس عشر الذي اطاحت به الثورة الفرنسية.
بلغت صرفيات الحملات الإنتخابية للرئاسة والكونجرس في الدورة السابقة 6 مليار دولار، معظمها من تمويل الأثرياء، فحجم التبرعات الشعبية (200 دولار أو أقل للفرد) تمثل نسبة 0.25% فقط. إن ما جعل عملية الإنتخابات أشبه بالمزاد العلني إصدار المحكمة العليا قانون سيتزن يونايتد والذي أقر أن المال هو صيغة من صيغ التعبير التي يضمنها الدستور مما يترتب عليه أحقية الشركات ورجال الأعمال بتمويل مرشحيهم المفضلين بلا حدود، كما أقر مايدعى سوبر باك والذي يتيح لأي مجموعة من الأغنياء تشكيل جمعية لا يشترط الإعلان عن أعضائها ومصادر اموالها التي ستستثمرها للترويج للمفضلين من مرشحيها وتشويه منافسيهم.
المليارديران الشقيقان تشارلز وديفيد كوك لوحدهما قررا التبرع لمرشحي الحزب الجمهوري وخاصةً اليمينيين منهم بمبلغ مليار دولار، وقد اجتمعا علناً بجميع مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة (عدا دونالد ترامب فهو مليادير أصلاً ) للبحث في احتياجاتهم لضمان الفوز بالرئاسة، وقد صرح ديفيد كوك دون تردد على ال cnn بأن الشقيقين يقدمان خدمة للشعب بأختيار الممثلين الأصلح ومساعدتهم على الفوز، وما على الشعب إلا أن يسترخي ولا يتعب نفسه بالبحث والتدقيق، فالشقيقان يقومان بذلك نيابةً عنه ، أ سذاجةٌ تلك أم غرور أم صياغة جديدة لمفهوم الديمقراطية؟.
لا يخفي الحزب الجمهوري انحيازه الحميمي للرأسماليين الكبار معززاً خطابه بنظرية ميلتون فريدمان في السوق الحرة غير المقيدة وعدم تدخل الدولة وترك السوق ينظم نفسه بنفسه تحكمه ما يدعوه آدم سميث باليد الخفية، متغافلين أن أدم سميث حذر من تغول الشركات ونشوء الإحتكارات التي تشكل سلطة غاشمة تحكم السوق بدل أن يحكمها، ومتناسين أيضاً أن آدم سميث قد إستنبط أفكاره في إنجيل الرأسمالية ” ثروة الإمم ” من قراءته لإقتصاد بدايات الثورة الصناعية، وإن كل الأمثلة التي ساقها كانت لقصابين وصانعي أحذية وخياطين ، ولم يتسن له أن يشهد عصر العولمة والاحتكارات الكبرى حيث تمتد اليد الخفية خلسةً وعلانيةً لجيوب الفقراء، ويتم توزيع الثروة بالإتجاه المعاكس من القاعدة ألى القمة، إضافةً إلى أن هاجس أدم سميث من تدخل الدولة يحمل بعداً قومياً على إعتباره اسكتلندياً يرفض القيود المنحازة ضد التجار الأسكتلنديين من قبل دولة التاج البريطاني.

أما الحزب الديمقراطي فهو يعلن في النهار خطابه المدافع عن حقوق الفقراء والطبقة الوسطى وينام في فراش البرجوازية ليلاً. بيل كلنتون الذي عرضته وسائل الإعلام فارساً للدفاع عن الطبقات الدنيا كانت أكبر انجازاته معاهدة نافتا للتجارة الحرة التي زادت كبرى الشركات ثراءً ، بينما تركت آثاراً سلبية هائلة ليس على سوق العمل في أميركا فحسب ، بل على العمال وصغار الفلاحين في المكسيك، ومن انجازاته أيضاً إلغاء كلاستيغل مما سمح بتنشيط إقتصاد الكازينو ونشوء طبقه طفيلية ساهمت في زعزعة الإقتصاد بمغامراتها في تجارة الأسهم ، واندمجت المصارف والشركات لتصبح مؤسسات احتكارية كبرى لا يمكن المساس بها، بل على الدولة دعمها عند تعرضها للإفلاس ، وإلا سينهار الإقتصاد بانهيارها، وهذا ما حصل فعلاً في أزمة 2008 م حين تم دعمها بمبلغ 700 مليار دولار من أموال الشعب، وهنا يبدو واضحاً نفاق أولئك المدافعين عن السوق الحرة غير المقيدة وعدم تدخل الدولة فيه، فهم يرغبون على مايبدو بتدخل الدولة فقط لنجدة الرإسماليين. اوباما الذي تحولت حملته الإنتخابية إلى حركة شعبية قد فشل في إنجاز وعده في إحداث تغييرات من شأنها تفكيك تلك الإحتكارات، لتصبح مسؤولة عن حل أزماتها دون أن يدفع الشعب ثمن اطماعها.
البضاعة السياسية المعروضة كخيار للشعب تقتصر على هذين الحزبين فقط ، وكلاهما أدمن تمويل الوول ستريت والعمل على خدمته رداً للجميل.
لم يقتصر دور كبار الرأسماليين على تمويل الحملات الإنتخابية فقط ، بل أن الأخطر من ذلك على الديمقراطية دور اللوبيات أو جماعات الضغط المدافعة عن مصالحهم دون عامة الشعب. الهدف من جماعات الضغط نظرياً هو فتح قنوات تواصل بين الشعب والسلطة التنفيذية والتشريعية لدعم قضايا إنسانية هامة كالدفاع عن حقوق المهاجرين أو العمال وحماية البيئة وحقوق الإنسان وغيرها، إلا أنها تحولت إلى جماعات ضغط لمنع أي تشريعات أو إجراءات تضع محددات أو ضوابط على الشركات والبنوك، وتدفع باتجاه تمرير ما يؤمن احتكاراتها ويطلق يدها في السوق. يمتليء البيت الأبيض ورواق الكونجرس بمندوبين في عمل يومي ، وهم يحملون شيكاتهم وحقائبهم المليئة بالخطط المراد تمريرها عبر التصويت، يعدون بتمويل الحملات والرشى القانونية، وهناك ما لا يحصى من أساليب لقوننة الرشاوي، كأن يدفع للمسؤول مبلغ ضخم مقابل محاضرة أو إستشارة للشركة، أو تقديم تبرع بمبلغ كبير لجمعية غير ربحية يؤسسها المسؤول أو النائب ( استلمت جمعية كلنتون الخيرية مثلاً 5 مليون دولار من شركة بوينغ ، وليس ذا عقل من يصدق أن شركة بوينغ قد فعلت ذلك من باب التقوى).
النشاط اللوبي يقودنا إلى الحديث عما يسمى الباب الدوار، أي تنقل المسؤول من منصبه الرسمي إلى منصب كبير أو وظيفة لوبي للشركة والعكس. بجهد بحثي بسيط ستكمل قائمة طويلة من الأسماء ممن يتنقلون في المناصب بين واشنطن والوول ستريت ( كانتور عضو كونغرس جمهوري سابق تلقفته مجموعة مصارف JBMORGAN ،كما عينت نفس المجموعة رئيس موظفي البيت الأبيض الديمقراطي بيل ديلي، وبالإتجاه المعاكس يندر أن تجد مسؤولاً كبيراً في البيت الأبيض لم يأت من الوول ستريت ، القائمة طويلة جداً من الحزبين ، أما من يتجرأ بالتحرش بنفوذ الوول ستريت سيجد نفسه تحت النيران حتى يغادر البيت الأبيض كما حصل للديمقراطية التقدمية اليزابث وارن ).
ليكتمل طوق الإرتهان للطبقة الرأسمالية وإفراغ الديمقراطية من محتواها ، لابد لها أن تعيد تشكيل الوعي الشعبي، فتجرده من روح النقد والإحتجاج بحيث يتعطل الدور التأريخي للفرد. يبث الإعلام الموجه كماً هائلاً من المعلومات والصور التي تهدف إلى الإلهاء وإثارة العواطف والغرائز اللاعقلانية فبدل البحث عن سر الهوة الطبقية التي تتسع بشكل جنوني، يصبح السؤال هل سيشتري اوباما كلباً وما نوعه وماذا ستسميه ابنته، أو لماذا تأخرت هيلاري كلنتون في المرافق أثناء المناظرة ، وهل ارادت بذلك كسب تعاطف النساء بتذكيرهم أنها إمرأة، وتشترك في تسطيح الوعي الشعبي هوليوود وبرامج التسلية والرياضة والجامعات ومراكز البحوث وغيرها . الحديث عن تأثير تلك المؤسسات وتفاصيله يطول وربما من الأفضل تناوله في مقال منفصل لاحقاً.

ملاحظة : كتب المقال قبل إنتخاب ترامب وصعود اليمين المتطرف الذي أصبح للمال في ظل إدارته دور مافيوي علناً ودون مواربة.