مقدمة:
بهدف الترابط العضوي للموضوع سأعمد إلى إعادة المقدمة في كل حلقة.
يعمل النظام السلطوي على مبدأ القوة الطاردة المركزية التي تلقي بعامة الشعب على هامش الفعل السياسي والإجتماعي والثقافي،بينما تبقي على حفنة من السياسيين في مركز صناعة القرار لتحتكر عملية البناء والتخطيط والإدارة، مما ينتج عن اعتلالات بنيوية خطيرة، تتمثل في هشاشة المؤسسات وتوتر الصراع بين الطبقات والفئات الإجتماعية والكيانات الثقافية،وقطيعة أو شبه قطيعة بين الأمة والدولة. بالمقارنة تعمل الديمقراطية بصيغتها المثالية على مبدأ الاحتواء لا الإقصاء، فهي تخلق فضاءات واسعة لمشاركة وتفاعل الجميع للوصول إلى حلول وسطية، من شأنها خلق حالة توازن بين مصالح الطبقات والمكونات الإجتماعية والثقافية، وبهذا تنتج مجتمعاً متماسكاً، وتفتح قنوات تواصل فعالة بين الأمة والدولة.
من نافل القول أن الأنظمة الديمقراطية هي الأمثل في إدارة الحكم وبناء المجتمعات، إلا أن فجوةً واسعة تجدر دراستها بين صيغتها المثالية والواقع الحقيقي للتجارب الديمقراطية، منذ مهدها الأول في أثينا إلى الديمقراطية المعاصرة التي تخفي ملامح شيخوختها خلف ماكنتها الإعلامية العملاقة، فبينما تعد الديمقراطية بتساوي الفرص للجميع ، يظهر جلياً أن البعض أكثر تساوياً من الأخرين حسب تعبير جورج أرويل الساخر.
إذا كان ماركس قد اشاد بالديمقراطية على اعتبارها مشروعاً حضارياً رائداً، فإنه لم يتوقف عن نقد الطبقة الحاكمة في تسخير آلياتها لشرعنة استغلالها وتغليب مصالحها على حساب عامة الشعب.
الطريق إلى الملكية الدستورية
في الحلقة السابقة تركنا البرلمان البريطاني وقد تعزز نفوذه نسبياً ، وفي هذه الحلقة سنستعرض ماشهده القرن السابع عشر من حروب وصراعات عنيفة بين البرلمان والحكم الملكي لتعزيز السلطة التشريعية وصولاً إلى الملكية الدستورية كمرحلة أولى على طريق الديمقراطية الحديثة.
– الحرب الأهلية :
بلغ الصراع ذروته في فترة حكم تشارلس الأول ( 1625-1649) ذي الميول الكاثوليكية والذي كان متزوجاً من الكاثوليكية الفرنسية هارييتا ماري ، مما افقده ثقة البرلمان ، وأثار حوله الشكوك ، بيد أن النزاع بين البرلمان والملك – رغم ظاهره الديني – كان يحمل أبعاداً سياسية وإقتصادية أيضاً، فعودة الملك إلى احضان الكاثوليكية تعني إحياء مفهوم الوصاية الإلهية التي تطلق يد الملك بإسم الرب ، كما أن حكم الملك دون محددات قانونية سيفضي إلى إنتهاك حق الملكية، إضافةً إلى تجريم وتكفير معارضيه لاعتقالهم متى يشاء، وقد أكد ثشارلس الأول تلك المخاوف بإعلانه ولمرات عديدة بأنه يحكم بريطانيا بإسم الرب، وقد حل البرلمان لمرات عديدة وحكم لفترات طويلة بلا قيود.
اندلعت سلسلة من الحروب الأهلية بين جيش الملك وجيش البرلمان الذي تشكل من العامة جنوداً ومن أصحاب الأملاك قادةً، وإنتهت الحرب بإنتصار البرلمان وجز رأس الملك بتهمة الخيانة، الأمر الذي سيتكرر بعد أكثر من قرن مع ملك فرنسا الذي وضعته الثورة الفرنسية تحت شفرة المقصلة، مما يجعلني أميل إلى الإعتقاد أن رأس الملك لم يكن هو المستهدف لذاته، بل فكرة الوصاية الإلهية التي تستوطن ذلك الرأس والتي يجب إستئصالها ( رغم بشاعة الفعل!).
خلال سنوات الحرب الأهلية برزت حركة اللفلرز والتي ضمت مجموعة من جنود جيش البرلمان المنحدرين من اصول فقيرة، يقودهم بعض الجنرالات المتنورين المثقلة ضمائرهم بالهم الإنساني ومعاناة الفقراء. كان إنشغال الحركة الرئيسي ضمان حقوق العامة ومكافأة تضحياتهم في القتال ضد الملك ومنع إستئثار الأثرياء على مقاليد السلطة من بعده، وقد اكتسبت الحركة شعبية كبيرة لابتكارها أساليب جديدة في نشر افكارها كطباعة المنشورات وتنظيم المسيرات والندوات الشعبية، كما أنها طورت منظومة من الأفكار السابقة لزمانها بقرون بإصدارها دستوراً مقترحاً يمنح لكل من بلغ الحادية والعشرين من الذكور والإناث حق التصويت بغض النظر عن وضعه المالي أو مكانته الإجتماعية ، وعلى الدولة أن تضمن للجميع حرية التعبير والضمير والحرية الدينية بما فيها الإلحاد، كما طالب الدستور بالعدالة في توزيع الثروة. إلى جانب حركة اللفلرز نشأت حركة الحفارين والتي تبنت أفكاراً أكثر راديكالية بمطالبتها بتوزيع الأرض على الرعايا بالتساوي على اعتبارها هبة الله إلى الجميع وليست ملكا لحفنة قليلة العدد.
في أعقاب الحرب الأهلية أحكمت الطبقات الثرية قبضتها لا على على السلطة التشريعية فحسب، بل على السلطة التنفيذية بإلغائها الملكية وإعلان الجمهورية التي لم تدم طويلاً بقيادة أوليفر كرومويل ومن بعده ولده ريشارد. وضع ذلك البرجوازية على المحك لإثبات مصداقية خطابها التحرري، فكان سجلها مخيباً بممارستها العنف والترهيب في سحق حركتي أللفلرز والحفارين وإسكات الأصوات المطالبة بتوسيع المشاركة الديمقراطية،إلا أن حزمة الأفكار التي طورتها الحركتان والأسئلة التي اثارتها عن حقوق الفقراء والعدالة الإجتماعية لا يمكن أن تتلاشى وقد إنبثت في العقل الجمعي للطبقات الشعبية.
-الثورة المجيدة (1688 م):
دكتاتورية كرومول وضعف شخصية كرمويل الإبن كانا سببين رئيسيين لعودة الملكية وتنصيب تشارلس الثاني على العرش. بالطبع لم يهدأ الصراع بين تشارلس الثاني والبرلمان الذي قطع رأس أبيه، إلا أن قلق البرلمان الأكبر كان عمن سيخلف تشارلس بعد موته ، فهو لا يملك ذريه، وولي العهد الوحيد سيكون أخوه جيمس الثاني، والذي تخلى علناً عن البروتستانية وإعتنق الكاثوليكية، وهو كأبيه يصر على أن الملوك هم ظلال الله على الأرض. لم يدخر البرلمان جهداً لحرمان جيمس من ولاية العهد دون جدوى.
لم يظهر جيمس الثاني في بداية توليه العرش عداءً للبرلمان، وما إن تنامى نفوذه العسكري والمالي حتى شرع بإتخاذ حزمةً من الإجراءات التي اغضبت البرلمان ولم تنل رضا العامة، فقد عبر عن انحيازه الطائفي بعزل البروتستانت من قيادة الجيش والمناصب الرئيسية في الدولة واستبدالهم بشخصيات معروفة بفسادها الإداري شرط تحولها إلى المذهب الكاثوليكي، وقد إعتقل عدداً من رجال الدين البروتستانت الذين رفعوا اصواتهم بالمعارضة. أما على المستوى الإقتصادي فقد كان ممانعاً في تنفيذ سياسة حمائية لتشجيع المنتوجات المحلية وخاصةً النسيج القطني، بل وضع بدل ذلك قيوداً مشددة على التجارة الخارجية لضمان إحتكار الشركات الكبيرة كشركة الهند الشرقية مقابل نسبة أرباح لعرشه، كما أسرف في فرض الضرائب، وإنتشر الفساد وإبتزاز موظفيه للرعايا.
قررت مجموعة من البرلمانيين أن لا مناص من الإطاحة بالملك جيمس الثاني وقد أوكلت المهمة لإبنته ماري وزوجها الأمير الهولندي وليم الثالث، واللذان قدما بجيش صغير إلى بريطانيا، ولم يصمد جيمس الثاني فقد تحسس رأسه مستذكراً رأس أبيه المقطوع وهرب إلى فرنسا ليتم تنصيب وليم الثالث على العرش.
عرفاناً بالجميل وافق وليم الثالث على سلسلة من التشريعات التي اصدرها البرلمان وهي بمثابة دستور أو عقد إجتماعي ينظم العلاقة بين الملك ورعاياه من جهة والملك والبرلمان من جهة أخرى، وفق تلك التشريعات يجب على الملك أن يؤدي القسم لا لحمايه رعاياه وضمان حقوقهم وحرياتهم ومساواتهم أمام القانون فحسب، بل على الملك أن يكون هو نفسه خاضعاً لأحكام القانون، وعلى الملك أن يحصل على موافقة البرلمان لإعلان الحرب أو إذا رغب في الإحتفاظ بجيش المملكة في فترات السلم أو لفرض الضرائب.
حاولت من هذا العرض الموجز للأحداث اقتناص بعض الأدلة التأريخية التي تشير إلى دور سلطة المال في تشكيل طبيعة النظام السياسي ورسم حدود المساهمة في الديمقراطية، فرغم أن الطبقات الثرية المهيمنة قد انجزت الملكية الدستورية وشرعت بعض الحقوق والحريات للعامة ، إلا أنها بقيت حريصة على ضمان احتكارها للعملية السياسية عبر وضع ملكية الأرض شرطاً للتصويت والترشيح فنسبة المؤهلين للتصويت آنذاك لايشكلون أكثر من 3% من مجموع الذكور البالغين، كما أن الطبقة الحاكمة لم تتوان عن إستخدام العنف لسحق كل من يطالب بتوسيع المشاركة الديمقراطية كما لاحظنا ماحصل لحركتي اللفلرز والحفارين.