18 ديسمبر، 2024 6:12 م

الديمقراطية صانعة للدكتاتورية !

الديمقراطية صانعة للدكتاتورية !

قال الحكيم أفلاطون ” الديمقراطية أسوأ أنواع الحكم ” وكررها ونستون تشرشل السياسي المخضرم وبطل الحرب العالمية الثانية الذي صوت الشعب البريطاني لاخراجه من السلطة متنكرين لكل الأمجاد والانتصارات التي حققها لإنقاذ بريطانيا من أتون حرب مدمرة أحرقت الأخضر واليابس في البلاد .

وفي العموم ليست الديمقراطية هي الحل الأمثل لمآسي الشعوب المقهورة المبتلين بأنظمة الحكم الفاسدة أو الدكتاتورية الظالمة وخصوصا في منطقة بائسة مثل منطقة الشرق الأوسط الغارقة في الجهل والتخلف والأمية وغياب الوعي السياسي ، ولعل هذا هو السبب الأساسي لنشوء أو استمرار الدكتاتوريات الحاكمة في بلدانها .

لدينا أمثلة حية في تاريخنا المعاصر وهي ليست بعيدة جدا . ففي مصر والعراق وسوريا وغيرها من البلدان العربية كانت هناك برلمانات وأحزاب سياسية تخوض الانتخابات حتى لو كانت أكثرها مزيفة ومزورة ، ومارست شعوب هذه الدول حقها في انتخاب ممثليها بالسلطة التشريعية التي تنبثق منها السلطة التنفيذية ، ولكن مع ذلك بقي الحكام الدكتاتوريين على سدة الحكم على الرغم من تلك المظاهر الديمقراطية . ولعل أطرف ما سمعته كمثقف هو ما يلصقه بعض الحكام الدكتاتورين من لازمة الديمقراطية على اسم دولهم ، فمثلا تجد بأن دكتاتور الكونغو يسمي بلده بـ” الكونغو الديمقراطية ” و يسمي معمر القذافي الذي لم يتنح عن السلطة طوال أكثر من أربعين سنة بلده بـالجماهيرية الشعبية الديمقراطية العالمية التي لا مثيل لها في الكون “!.

وهكذا كان يفعل صدام الدكتاتور حين ينظم مهرجانات البيعة الشعبية في العراق ويصوت له الملايين من الشعب المقهور لصالح بقائه في السلطة . هذا إلى جانب النكتة الكبرى التي راجت في العقود الماضية وهي نسبة 99 بالمائة من الأصوات التي يحصل عليها الرؤساء الديكتاتوريين في جميع الانتخابات التي تجري في بلادهم !.

نعود إلى فيلسوف الزمان أفلاطون الذي يبرر عبارته الشهيرة بالقول ” لا يجب أن يتساوى صوت الرعاع مع النخبة المثقفة ” . وجاء حكم هذا الفيلسوف العظيم متأثرا بما فعله الرعاع بحق ” سقراط ” أعظم فلاسفة وحكماء الأرض حين جرعوه السم بتهمة افساد عقول الشباب !.

وهذا القول الحكيم يتوافق تماما مع أحوال أممنا حيث يتساوى في حق الانتخاب الأستاذ الجامعي الذي أمضى شطرا كبيرا من حياته في القراءة والاجتهاد والدراسة الأكاديمية ، مع راعي غنم في أقاصي الجبال الذي قد لا يكون رأى سيارة في حياته !.

وفي تجربتنا العراقية وخصوصا بعد تحرير العراق من الدكتاتورية نرى بأن المرجعية الدينية ومباركتها لأي مرشح أو حزب هي التي توصل العضو أو الحزب إلى البرلمان ، فليس أمام المقلدين والملتزمين بالمذهب أي خيار غير الامتثال لأوامر المرجعيات !. وهذا ما حصل مرارا في الانتخابات التي تلت سقوط صنم الدكتاتور في ساحة الفردوس ببغداد .

وطبعا لا نغفل عن القوى الأخرى التي تتحكم بمصير الانتخابات الديمقراطية وهي القوة العشائرية أو القبلية والانتماء إليهما ، فرئيس العشيرة أو القبيلة هو الذي يقرر مصير أي مرشح في الانتخابات ويتحكم بنتائجها . ولهذا نرى بأن فعاليات المجتمع المدني وحظوظ المرشحين المستقلين بما فيهم الليبراليين ضئيلة جدا بالفوز في الانتخابات على الرغم من أن جميع الأحزاب المدعومة من المرجعيات والعشائر قد تكون غارقة في مستنقع الفساد وعمليات السلب والنهب لموارد الدولة !.

وفي مثال آخر حي من اقليم كردستان رأينا خلال خمس دورات برلمانية متتالية فوز حزب الزعيم الكردي مسعود بارزاني بأكثرية مقاعد البرلمان وهذا ما ساعده على رئاسة جميع التشكيلات الحكومية طوال 32 سنة الماضية ، إلى جانب احتكار منصب رئاسة الإقليم منذ عام 2005 ولحد يومنا هذا !. وهناك دائما شكوك بقيام هذا الحزب بعمليات التزوير وتزييف نتائج الانتخابات لكن الحال بقي على ما هو عليه من التحكم بالسلطة من قبل هذا الحزب الذي تحول تدريجيا إلى الحكم الدكتاتوري وإعلان نفسه الحزب القائد لشعب كردستان ! . ورغم أن بقية الأحزاب الأخرى شاركت كل حسب نسبتها من مقاعد البرلمان في الحكومات المشكلة ، لكن لم يكن بيد أي منها سلطة القرار ولا حتى حق المشورة في القرارات السياسية العليا والدليل على ذلك القرار الخاطئ بإجراء الاستفتاء الفاشل الذي أجري عام 2017 والذي أدى إلى خسارة 51% من أراضي كردستان وخروجها من سلطة حكومة إقليم كردستان !.

لقد كانت الديمقراطية المزيفة ورقة رابحة بيد الأحزاب والقيادات السياسية للتحكم بالسلطة والبقاء أكبر فترة في دست الحكم ، وأنا أرى وقلت ذلك مرارا بأن بقاء أي حزب أو شخص في السلطة لمدة طويلة سيؤدي بكل الأحوال إلى نشوء الدكتاتورية وحلول الفساد والخراب على الشعوب والدول . وأوضح صورة لهذا هو ما نشاهده اليوم في اقليم كردستان العراق الذي يتحكم فيه حزب واحد منذ أكثر من ثلاثين سنة دون أن يتزحزح من مكانه ، ويسلك رئيسه ورئيس حكومته نفس النهج الدكتاتوري الذي جربناه في العراق ودفعنا ثمنه باهضا من دماء شعبنا ومستقبل أجياله .

الديمقراطية عندنا بدل أن تصبح غاية لممارسة الشعب للسلطة ، أصبحت وسيلة لصنع الدكتاتوريات والتحكم برقاب شعوبها .