الديمقراطية كما نعلم لفظة يونانية الاصل تتكون من لفظتي (Demo) أي الشعب و(Kratia) أي الحكم، وبدمج اللفظتين تتكون كلمة (Demokratia) أي حكم الشعب أو سلطة الشعب، ففي بلاد اليونان التي أسهمت إسهاماً عظيماً في بناء صرح الحضارة البشرية نشأت الديمقراطية. فقد عرفت المدن اليونانية كأثينا واسبارطا نوعاً من الديمقراطية القائمة على أساس مشاركة السكان في إتخاذ القرارات التي تعبر عن مصالح ورغبات السكان.
وعلى مر العصور وبعد كفاح طويل وشاق ومرير تطورت الديمقراطية حتى بلغت شكلها المعروف اليوم في البلدان الاوربية والولايات المتحدة الامريكية وبعض بلدان الشرق كاليابان والهند، أعني ذلك النظام السياسي التعددي الذي يشارك الشعب، كل الشعب في الحكم من خلال ممثلين يُنتخبون إنتخاباً حراً ونزيهاً في دولة يتساوى فيها جميع أفراد الشعب في الحقوق والواجبات، دولة مدنية يسود فيها حكم القانون وتُضمن فيها الحريات الفردية فضلاً عن الحريات العامة المكفولة دستورياً كحرية الدين وحرية الكلام والتعبير عن الرأي وحرية الصحافة والنشر وحرية التظاهر السلمي.
الديمقراطية في الدول الغربية أو في الولايات المتحدة الامريكية تعني “حكومة الشعب المنتخبة من قبل الشعب لتعبر عن مصالح الشعب”. في ظل هذه الديمقراطيات يكون القانون حامياً لجميع المواطنين دون تمييز، كما أن الجميع يخضعون للقانون طوعاً، ولا يمكن سن قانون يمس حريات الافراد المكفولة دستورياً. الحياة والحرية والتملك والبحث عن السعادة حقوق طبيعية لكل مواطن. ومقابل هذه الحقوق والحريات هناك واجبات ومسؤوليات يجب على كل مواطن أن يأخذها بنظر الاعتبار حفاظاً على المصلحة العامة للوطن والمجتمع.
الآن وبعد زوال النظام الاستبدادي الشمولي، هل يمكن بناء نظام ديمقراطي في بلد كالعراق عان فيه الشعب من الويلات والكوارث والمصائب التي قلما شهد مثلها شعب من شعوب الارض؟ قبل الاجابة على هذا السؤال علينا ان نتذكر أن التقدم الحاصل في الغرب في كل مناحي الحياة لم يتحقق إلا بعد فصل الدين عن الدولة أي بعد قيام الدولة العلمانية كشرط ضروري لممارسة الديمقراطية.
لقد عاشت أوربا قروناً عديدة في حالة من الجهل والبؤس والتخلف في ظل الهيمنة المطلقة للكنيسة في تلك الفترة المظلمة. وكلنا يتذكر الفظائع والجرائم التي أرتكبت باسم الدين من قبل محاكم التفتيش سيئة الصيت. ومأساة الفيلسوف الايطالي جيوردانو برونو (1548-1600) الذي أتهم بالالحاد واحرق حياً في إحدى ساحات روما، أحد الامثلة على تلك الفظائع. كما أننا لا ننسى قصة غاليلوغاليلي(Galileo-Galilei)(1564-1642)أحد أشهر علماء الفيزياء والفلك الذي أكتشف حركة دوران الارض حول الشمس، ذلك الاكتشاف الذي كاد يودي بحياته لولا نكرانه لتلك الحقيقة أمام محكمة التفتيش.
وهنا تجدر الاشارة الى أن هذه الممارسات اللاإنسانية لا تمت بصلة ،إطلاقاً ، إلى تعاليم السيد المسيح، تلك التعاليم العظيمة التي قال عنها غاندي ذات مرة: “لو أن العالم سار على هدي موعظة الجبل ، لزالت الشرور من على وجه الارض ولعاش البشر في سىلام ووئام”.
إن تعاليم يسوع تدعو الى المحبة والرحمة والغفران والسلام. لقد قرأ كاتب هذه الاسطر “العهد الجديد” أكثر من مرة وبثلات لغات من ضمنها لغته الام الآشورية ، فلم يجد جملة واحدة ، بل كلمة واحدة تدعو الى الكراهية أو القسوة أوالعنف على الاطلاق… خلافاً لبعض الاديان التي تدعو، مع الاسف، الى الكراهية والعنف بكل وضوح وأنا أتحدى من يدعي عكس ذلك. ومن أراد أن يتعرف على جوهر تعاليم يسوع المسيح، فليقرأ “موعظة الجبل” الخالدة فقط ليتحقق من صحة ما أقول. وإن شاء، فليقرأ “العهد الجديد ” كله. وبعد ذلك فليحكم.
وبعد فصل الدين عن الدولة وزوال سلطة الكنيسة وقيام الدولة المدنية ونشوء البرلمانات وإجراء الانتخابات النيابية التي تجسد تمثيل الشعب بكل طبقاته وفئاته وشرائحه في إدارة شؤون الحكم والدولة وتأمين حرية التفكير والاختيار، بدأت إنطلاقة كبرى للتقدم العلمي والمعرفي والتقني في أوربا. وبعد أن ترسخت الديمقراطية ومفاهيمها في الغرب وإثبثت نجاحها، أصبحت جزء لا يتجزأ من حياة الناس في أوربا وقيمة عُليا يقاتلون من أجلها حتى الموت إذا إقتضى الامر. وإندلاع الحرب العالمية الثانية التي أشعل فتيلها الطاغية المجنون المأفون هتلر يؤكد صحة ما نقول.
فعندما أعلن هذا السفاح الحرب على العالم، نهضت أوربا عن بكرة أبيها ووقفت وقفة رجل واحد جنباً الى جنب الولايات المتحدة الامريكية لسحق رأس هذا الوحش الذي أراد أن يستعبد العالم. لقد قدمت الشعوب الاوربية أرواح عشرات الملايين من خيرة أبنائها على مذبح الحرية والديمقراطية اللتين بدونهما لا معنى للحياة.
لقد أدركت بعض الدول غير الاوربية قيمة وأهمية الديمقراطية ومفاهيمها، فحذت حذو الغرب في تطبيق النظام الديمقراطي ونجحت الى حد كبير وحققت تقدماً عظيماً في شتى مجالات الحياة. أما الدول الاخرى ومنها الدول العربية والاسلامية فظلت متأخرة ومتخلفة عن ركب العالم المتمدن لأنها رفضت فصل الدين عن الدولة والسياسة متذرعة بذرائع هي أوهى من خيوط العنكبوت زاعمة أن العلمنة او العلمانية هي مفهوم مستورد من الغرب (الكافر) يتنافى مع الدين الاسلامي ويهدد القيًم الاسلامية، وإن الاسلام يصلح لكل زمان ومكان وإن لهم ديمقراطيتهم الخاصة بهم ” وأمركم شورى بينكم” وكفى بالله شهيداً.
ولم تجن الدول الاسلامية من هذه الافكار البالية سوى الحروب والمنازعات والصراعات الطائفية والجرائم الارهابية الفظيعة. إن الحرب العراقية الايرانية التي دامت ثمان سنوات وراح ضحيتها أكثر من مليون قتيل من الجانبين كانت ثمرة من ثمار هذا الفكر المتخلف. لقد أراد آية الله الخميني تصدير ثورته الى الاقطار العربية بدءً بجارته الاقرب “العراق” واهماً أنها ستكون فريسة سهلة ولقمة سائغة فاندلعت حرب تعتبر واحدة من أكثر الحروب وحشية ودموية ولا أخلاقية في عصرنا وبين شعبين مسلمين وجارين.
إذا أرادت الشعوب العربية أو الاسلامية أن تواكب التطور الحضاري الجاري في العالم, عليها أن تنظر الى العالم نظرة واقعية وأن تتخلى عن فكرة أن “الاسلام دين ودولة” وأن تتبنى النظام الديمقراطي العلماني.
إن العلمانية هي الحل الاوحد وبدونها ستظل الشعوب العربية والاسلامية متخلفة بائسة مستعبدة من قبل حكام يستغلون الدين لمصالحهم الخاصة، ويسلبون حريات الافراد تحت يافطة الدين وتستمر الصراعات الطائفية والنزاعات المذهبية. وتشتد الجرائم الارهابية الوحشية وقتل الابرياء باسم الدين.
وعلى أصحاب العمائم الذين يتشدقون بالحرص على الدين أن يدركوا أن العلمانية لا تهدد دينهم. العلمانية ببساطة تعني أن الدين ينبغي أن يُنظر اليه على أنه علاقة بين الفرد وخالقه يعبده كما يشاء ويصلي أو يصوم كما يشاء ويؤدي الفرائض التي يراها ضرورية لتقربه الى ربه. إن الاعداد الغفيرة من المسلمين المهاجرين الى بلدان الغرب وأمريكا واستراليا وغيرها من الدول الديمقراطية العلمانية يمارسون شعائرهم الدينية بحرية تامة. فلماذا يخشى المسلمون العلمانية إذا طٌبقت في بلدانهم؟!!
العلمانية لا تعني إلغاء الدين كما فعل الطاغية جوزيف ستالين وفشل فشلاً ذريعاً في تحقيق غايته. كما إنها لا تعني إطلاقاً فصل الدين عن المجتمع بل انها ببساطة تعني عدم ربط الدين بالدولة أو بالسياسة. إن إقحام الدين في الدولة يفسد الاثنين، كما قال ذات مرة أحد رجال الدين العراقيين المتنورين. كم هي رائعة المقولة الخالدة لمؤسس الدولة العراقية العظيم ، المغفور له الملك فيصل الاول: “الدين للّه والوطن للجميع”. لقد كان العراق الملكي دولة علمانية ولم يكن في دستور المملكة عبارة “دين الدولة الرسمي هو الاسلام”، ناهيك عن عبارة “الاسلام مصدر أساسي من مصادر التشريع”.
إن العلمانية او بالاحرى الدولة العلمانية هي الشكل الأنسب للمفاهيم السائدة في عالمنا المعاصر، وهي التي تتساوق أو تتناغم مع تطلعات إنسان القرن الحادي والعشرين ومع التقدم العلمي والتقني المذهل الذي يشهده العالم. أنا لستُ معادياً للدين أو ملحداً كما قد يتوهم البعض ، اذا كان الدين ، أي دين، يساعد على تنقية النفس البشرية وتهذيبها وتجعل الانسان يحب أخاه الانسان بغض النظر عن دينه أو إنتمائه القومي أو الطائفي. ولكي لا يتعارض الدين مع الدولة ويفسد الاثنان، يجب فصلهما. فرجل الدين مكانه الانسب هو الجامع أو المسجد، أما البرلمان فهو للسياسي. الأول يهذب النفوس والثاني يدافع عن حقوق من إنتخبوه ويسعى من أجل تحسين مستواهم المعاشي وتقديم أفضل الخدمات لهم.
إن كاتب هذه الأسطر مواطن عراقي أصيل، آشوري يحب وطنه حباً لا حدود له لأن أجداده عاشوا في هذه البلاد الجليلة منذ الآف السنين ، ربما منذ زمن كلكامش، وهو يفتخر باولئك الاجداد العظام الذين شيّدوا حضارة عظيمة ما زالت آثارها شاخصة للعيان حتى يومنا هذا. إن زيارة واحدة للمتحف العراقي تكفي للبرهنة على ما أقول.
إن هذا الحب العظيم لوطني لكل ذرة من ترابه، لجباله، وسهوله، لانهاره وأهواره، لمدنه المندرسة وآثارها، للعاصمة الحبيبة بغداد، ولكل المدن العراقية ، وللشعب العراقي بكل أطيافه، وحرصي الشديد على مستقبله حفزاني لكتابة هذه المقالة داعياً الساسة العراقيين المخلصين وكل الاحزاب السياسية، أن يكون ولاؤهم الاول لهذا الوطن العظيم وأن يعملوا كأخوة متحابين متآزرين لبناء عراق ديمقراطي علماني تعددي حر موحد يتآخى فيه الجميع ويتساوى فيه الجميع أمام القانون وفي الحقوق والواجبات، عراق آمن مسالم يحمل غصن الزيتون ويمد يد الصداقة الى كل شعوب المعمورة، عراق مزدهر تعمه الرفاهية والسلام والطمأنينة ، عراق يسدل فيه الستار على الماضي بكل ما فيه من آلام وفواجع ومآسٍ ولنتطلع جميعاً الى مستقبل مشرق سعيد لوطن على ضفافه كان بزوغ فجر حضارة عظيمة لا تضاهيها اية حضارة اخرى في قدمها وعراقتها.
أدعوكم أيها العراقيون النجباء لإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية لانها الحل الامثل والاوحد لتحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع ، دولة يكون فيها محك الوطنية الصادقة هو مدى الاخلاص والولاء للوطن ، وللوطن فحسب.