ان المراقب الموضوعي للمسيرة الديمقراطية في العراق بعد 9/ نيسان، يلاحظ اشكالية ذات أثر بالغ في الحياة السياسية العراقية منذ بدأت مرحلة الانفراج الديمقراطي (النسبي). وتتمثل هذه الاشكالية في الموقف الذي تقفه الحكومة رسمياً من المسألة الديمقراطية، وفيما اذا كان ما يجري من حركة سياسية، وما يقال من خطاب سياسي يمثل ازمة للديمقراطية ام ان الديمقراطية ذاتها تشكل ازمة للمجتمع؟
والدليل على ذلك، ان العناصر الفاعلة في الحياة السياسية العراقية تقدم بين الحين والآخر اجتهادات مختلفة واحياناً متناقضة لما يعتبر ديمقراطياً، وبالذات ما يمكن ان يكون ديمقراطياً على الصعيد العراقي، وما هو ليس بديمقراطي.
قد يكون ذلك طبيعياً في مرحلة البحث عن صيغة ملائمة للديمقراطية في العراق، ولكن من المهم الوصول الى قناعات حول حيثيات المجتمع واهدافه وما يمكن ان يناسبه مرحلياً حتى يمكن الحسم في صيغ معينة وآليات واجراءات وغير ذلك مما يدخل في باب الديمقراطية.
فمثلاً، هل نريد الديمقراطية المضبوطة، بمعنى ايجاد صيغة ديمقراطية مقننة وفق ظروف الحكومة بغض النظر عن القيم المطلقة التي تستهدفها الديمقراطية وتحميها مثل المساواة وسيادة القانون والحرية السياسية باشكالها المتعددة، وحرية التعبير والعدالة وما الى ذلك….
ام اننا نريد الديمقراطية المنضبطة بمعنى الالتزام بالقيم هذه…كأهداف وضوابط مطلقة، وجعل مسألة الانضباط مسألة ذاتية يمارسها كل من يساهم بالعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي بما يضمن قاعدة ان الاصل في الاشياء الاباحة (الحرية) ومن ثم تأتي القيود التنظيمية لتنظيم السلوك؟
يلاحظ احياناً ان تداخلاً بين هذا وذاك وربما ان هذه الحالة من تداخل تكون اقرب الى تفسير سلوك وقرارات بعض السياسيين، سواء في السلطة او خارجها والذين هم اكثر ميلاً وربما التزاماً بالمنهج الديمقراطي، ولكنهم في بعض الحالات يخلطون بين ما يعتبر في اطار الديمقراطية المضبوطة بفعل السقوف العليا وما يعتبر في اطار الديمقراطية المنضبطة بفعل القيود التنظيمية والالتزام الذاتي المسؤول.
ان هذا الخلط جعل الكثير من المواطنين ان لم يكن معظمهم يطرحون الاسئلة حول ماهية الديمقراطية وآليات عملها ومستوى الحريات التي تظلل العاملين في السياسة. وفي الوقت الذي تتفاوت فيه الاجابات او تختلف حول هذه الاسئلة، تأتي القرارات السياسية احياناً لتزيدها غموضاً، وتبدو البنى الديمقراطية المؤسسية اقل قدرة على الحفاظ على المكاسب ذات الاصل السياسي والقانوني.
ولهذا، نلاحظ ان القرارات السياسية اليومية تسيطر على الحياة السياسية وتشغلها لعدم توفر اليقين بأن قواعد المنهج الديمقراطي قد استقرت وثبت اتباعها، ولهذا ايضاً نجد ان المحللين المتابعين للحركة السياسية في العراق يجتهدون اجتهادات متضاربة بخصوص القرار السياسي.
ولو حاولنا ضرب امثلة على ما جرى في حياتنا السياسية بعد 9/ نيسان لامكننا الاشارة مثلاً الى النقاش الذي احتدم حول سحب الثقة من رئيس الحكومة ، وعلاقة ذلك بالسياق الديمقراطي العام للحكومة، وللسلوك الديمقراطي المرحلي، ومثل هذا الخيار خيار مرحلي يستهدف التكيف مع الظروف السياسية العامة للحكومة ويتناسب مع ما تزمع القيام به مستقبلاً؟
وكذا الامر بالنسبة الى قانون الانتخاب وفقاً للكتلة ام للفرد وكذلك بالنسبة لمبدأ الفصل بين السلطات الذي اقتربت منه حكومة المالكي الاولى حيث كونه خياراً استراتيجياً لملائمة السياق الديمقراطي العام للدولة ام انه شأن مرحلي عمل على تجريبه المالكي لرأي يتبناه؟
وكذلك ايضاً ما جرى حول الاتفاقية الامنية وما احاط بها من اداء رسمياً وشعبياً، هل عكست التزاماً بالخيار الديمقراطي الاستراتيجي ام المرحلي؟
وكذلك ما جرى على صعيد القضاء العراقي من اعادة التنظيم ومن حيث القرارات القضائية التي صدرت مؤخراً، وهل يقع ذلك في باب تأكيد استقلالية القضاء وزيادة فعاليته في دولة المؤسسات الديمقراطية المستهدف تحقيقها في العراق؟
وأخيراً، من الامثلة المطروحة للنقاش، ما يدور بين الصحافيين ونقابتهم والحوكمة، ومدى ملائمة ذلك لحرية التعبير المتوخاة في سياق المنهج الديمقراطي؟
هذه الاسئلة وغيرها، يمكن ان يبرز في خضم الحياة السياسية العراقية، وكلها تطرح ما هي صيغة الديمقراطية المطلوبة في العراق، وكيف يمكن تكييفها مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للحكومة؟
ان هذا التراكم في طرح الاسئلة والانشغال بالعابر اليومي عن الجوهري يشير الى ازمة في استيعاب المرحلة ومتابعتها، كما يشير الى حالة من عدم الحسم في الخيارات…
ونتساءل: هل الازمة ناشئة عن التوسع في تطبيقات الخيار الديمقراطي في بداية المرحلة، مما حدا بنا الى التريث واحياناً التراجع في المراحل المتقدمة منه؟ ام انها ناشئة عن تصميم فعلي ونهائي لتطبيق صيغة ديمقراطية محددة؟ اي تكييف العملية الديمقراطية، وفي جزئها السياسي تحديداً في ضوء ما هو مستهدف من ديمقراطية ضبط تتماشى اكثر من الظروف التي تمر بها الحكومة وربما تتماشى اكثر مع الاحتمالات التي ستطرأ على وضع الحكومة والتزاماتها مستقبلاً؟
ان التحول من الحركة الاجتماعية السياسية المضبوطة الى الحركة الاجتماعية السياسية المنظبطة ذاتياً، يستلزم قدراً كبيراً من الوعي وقدراً اكبر من الحس بالمسؤولية، ولكنه قبل ذلك يتطلب قدراً عظيماً من القناعة باهداف الحكومة ووسائل عملها وخياراتها السياسية. لهذا، لا يمكن ان تصل تطورات العمل السياسي الى حالة من الديمقراطية الممنهجة الا اذا كان التعامل مع الاهداف والآليات والقرارات متفقاً عليه وطنياً. بمعنى ان تتحول خيارات الحكومة الى حالة وطنية يتم تبنيها من قبل المجتمع بفئاته كافة. وهذا يتطلب الغاء التناقض بين التصورات التي يضعها كل طرف في محاولة للتقريب بين وجهات النظر على قاعدة المصلحة الوطنية العامة كمسؤولية وامتياز وعلى قاعدة المستقبل اهم من الماضي، والانسان اهم من المادة وعلى قاعدة جوهرية اخرى هي ان الحرية في الامن، والامن في الحرية وليس من مصلحة احد ان يتم تجاوز هذه القواعد.
[email protected]