اود بداية لفت انتباه القارئ ، الى ان الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته صدر عام 1985 ، لذا ارجوه مراعاة الظروف الزمانية لقراءة تحليلاته التي جاء بها . ولاهمية الافكار الواردة فيه وعمق فائدتها في دراسة منطقتنا ، ارتأيت مراجعته وترجمة بعض ما ورد فيه ، اعماماً للفائدة.
****************************
بداية ينبهنا الكتاب ـــ الذي اعد من قبل مجموعة من الاساتذة العاملين في ميدان العلاقات الدولية ـــ الى ان مفهوم ( دويلات ) او ( دول صغرى ) لا يحمل أية ظلال دعائية او اخلاقية وانما يقوم على اساس مستويات ثلاث : دول كبرى ودول صغيرة ودويلات .
وعليه ، تمحور موضوعه اولاً حول ازمة الدول الصغيرة في عالم اليوم التي اضحت بغض النظر عن موقعها في سلم القوى عاجزة عن منع الفيضان الدولي عبر حدودها بمثل ما هي عاجزة عن الانغلاق على نفسها لتتقي شر ما يجري في البيئة الدولية ، وثانياً الكيفية التي تتدبر هذه الدول / الدويلات شؤونها في ظل ضآلة حجمها وامكاناتها على كافة المستويات ، والتي مثلها الكتاب بالقنوات الثنائية والاقليمية والدولية .
وتكاد الدول الصغيرة تعيش هذه الازمة بحدة أشد من غيرها ، وهذا ما سعى اليه الكتاب لتعريفنا على المشكلات التي تواجهها هذه الدول في مجتمع دولي يتسم بالتوجه نحو زيادة الاعتماد المتبادل وزيادة التوجه نحو التكتلات الكبرى .
ويحاول الكتاب ايضاً التأثير على القارئ من حيث الاهتمام بهذا الجانب من القطاع الدولي أمر ذو اهمية بالغة لكونه يشكل اكثر من ربع مقاعد الجمعية العامة للامم المتحدة . ويقدم في الوقت ذاته رؤيا معينة لكيفية تحجيم الازمة والتقليل من اضرارها ما أمكن ، وذلك من خلال جملة من السياسات الداخلية التي يجب ان يقدم عليها صانع القرار في تلك الدول حين تتعرض دولته لأية ازمة .
وحين يمضي الكتاب في تشخيص المشكلة وتحديد ابعادها .. نتبين ان المشكلات التي تواجه الدول الصغيرة لا تقتصر على العوامل الخارجية التي تتضمن سياسات القوى الكبرى بل وتتضمن العوامل الداخلية : كالفقر ، وشح الموارد ، وتردي التعليم ، وضعف الامكانات ..
ومن خلال سعيه لتحديد مجال المشاكل الآنفة الذكر في الدول الصغيرة ، حاول الكتاب تقديم وصفة سياسية قد تكون غير مستساغة ولكن لابد من تناول دواء ما اذا ما اريد لهذه الامراض الا تتكرر . ويرى ان العلاج يتضمن عملاً شاقا من قبل قادتها ، فهو يتطلب منهم التفكير العميق ، وتبادل الاراء ، وطرح الافكار الجديدة ، واستثمار الاموال والقوى البشرية المدربة .. ان الامر يحتاج الى الشجاعة والى نوع من الالهام السياسي .
ثم يحدد الكتاب ابعاد المشكلة في عدة عوامل قد تعرض الدولة الصغيرة للخطر او تدخلها في دائرة الازمة . ويرى هذه الابعاد متمثلة في :-
التنافس الدولي الذي قد يهدد كيان الدولة الصغيرة ويضعها في دائرة الخطر .
الادعاءات الاقليمية من قبل الدول المجاورة .
الاهمية الجيوبوليتكية للدولة الصغيرة .
وجود موارد طبيعية في اراضيها ، كالنفط او معادن ستراتيجية مهمة اخرى .
العوامل الداخلية التي قد تكون هي الاخطر : البطالة ، الفقر ، ضعف الجهاز الامني والعسكري ، الامية ، الفساد الاداري ..
وفي ظل هذا الواقع ، على الدول الصغيرة التي تعيش المحنة في ابعادها الداخلية والخارجية ، ان تأخذ بنظرية توماس جيفرسون الداعية الى نوع من الاحتراس الدائم الذي يجب ان تمارسه مثل هذه الدول .
ثم يعالج الكتاب موضوع مهم يدور حول الدول الصغيرة والنظام الدولي ، ويرى في هذا الاطار ، ان الدول تعمل في بيئة تتداخل فيها العلاقات وتتكون من عدد وافر من المنظمات العالمية والاقليمية ودون الاقليمية ، وعليها ان تستغل وجودها في اطار هذه المنظمات لتبعد الخطر عن كيانها . لأن واقع هذه الدول وفاعليتها وامكاناتها في اطار المنظمات الدولية وبخاصة في الامم المتحدة وهيئاتها المختلفة ، أمر بالغ الاهمية بالنسبة لها ، فهي تعبير عن شرعيتها وتضمن لها حق الانتفاع بخدمات وكالات المنظمة الدولية المتخصصة ، اضافة الى ان التمثيل في الامم المتحدة يوفر لها اسلوباً اكثر جدوى في ضمان علاقات وافرة مع العالم الخارجي .
اما على صعيد القانون الدولي فقد بين الكتاب حرص الدول الصغيرة الى ان تكون اكثر احتياطاً من غيرها واكثر التزاماً بالقانون كونها اكثر حساسية تجاه الضغوط الخارجية . ولهذا تسعى جاهدة للحصول على عضوية المنظمات الدولية والتعايش مع البيئة الدولية . وعليه ، فقد خلص الكتاب الى القول : ان مجتمع المصلحة قد يكون اكثر حماية للدول الصغيرة من حالة العزلة .
اما الجانب الامني من هذا الكتاب ، فهو اكثر اهمية من غيره ، كونه يتناول الجانب الاهم ، ويبين المشكلات التي تواجهها الدول الصغرى على هذا المستوى ، وضرورة الاحتفاظ بقوات أمن كافية لسد حاجتها ، والوسائل العلمية التي يمكن من خلالها جعل قوات الامن الوطنية اكثر قدرة في مهماتها .
ويوضح الكتاب في هذا الخصوص ـــ الى ان الخبرة قد دلت على ان كلاً من التدخل الخارجي والخطر الداخلي ، هي اقل احتمالاً اذا كانت الدولة الصغيرة ذات وضع مستقر ، لذا فأن الاولوية الاولى يجب ان تكون في ضمان واستقرار الدولة الداخلي الى ابعد حد ممكن .
وفي باب الاستقرار السياسي ، يرى الكتاب ان الدول الصغيرة قد تبقى في حالة استقرار اذا توفرت حرية القول والتعبير والديمقراطية واحترام حقوق الانسان . اضافة الى انها تستطيع تمتين امنها واستقرارها من خلال تقوية روابطها مع الدول المجاورة ، وبذلك من خلال الاتصالات الشخصية او تشجيع الترتيبات الاقليمية والتضامن والتعاون على كافة المستويات .
ويلقي الكتاب الضوء على اهمية التنمية الاقتصادية كعامل حاسم في الاستقرار السياسي ، ويرى ان اكثر الاخطاء التي تهدد الاستقرار في العديد من الدول الصغيرة ولاسيما النامية هي اخطار ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية . فالتفاوت في التنمية بين منطقة واخرى ، والتذمر الناتج عن الفقر ، وتفاوت الثروة ، والقلق ، والاضطرابات الناجمة عن التغيرات البيئية والثقافية التي قد تحدثها عملية التنمية نفسها ، كل ذلك له آثار ذات اهمية كبيرة في الأمن والاستقرار السياسي .
ثم يجمل الكتاب النتائج التي توصل اليها والتوصيات التي خرج بها والمتمثلة في :- ان امن الدول الصغيرة ـــ التي اصطلح على تسميتها بالدويلات ـــ مسألة تتحكم فيها بشكل رئيسي الدولة الصغيرة ذاتها ، ولا يدعو الكتاب الى نظام حكومي معين لكنه يشير الى ان اي نظام لا يسمح بالتعبير عن الاشجان ، هو نظام اقل تأييداً على المستوى الشعبي . واذا كانت حكومة الدولة الصغيرة معروفة بالاساءة في تطبيق القانون ، وتغيب المؤسسات النيابية والنقابية ، فأن على المجتمع الدولي ان يمتنع عن التدخل لصالحها .
ان هذا الكتاب الذي حاولنا تقديم اهم ما طرحه من افكار يمكن لنا ان نلخص الغرض الذي سعى لبلورته وشرحه وتقديمه من خلال عرض المصاعب التي يمكن ان تتعرض لها الدول الصغيرة في ظل ضعف امكاناتها وصغر حجمها وبيان الاقتراحات والسبل التي يمكن ان تأخذ بها الحكومات في الدول الصغيرة اذا ارادت ان تتغلب على الازمة او فكرت في السبيل للخروج منها بأقل الخسائر .
مما يؤخذ على الكتاب انه يؤكد في اي فصل من فصوله وبخاصة حين يتحدث عن واقع التجزئة في الوطن العربي على اهمية الوحدة كعامل هام لخروج دوله الصغيرة من نطاق الصغر الذي هو اساس المحنة ومكمن الخطر الى تحقيق اي شكل من اشكال الوحدة والذي من خلاله يمكن لها ان تنتقل الى مرحلة الخروج من دائرة الخطر وتصل الى الاستقرار المطلوب وتعيش في ظل الوحدة في كنف صرح عصي على الهدم والعبث .
*الكتاب :-
Small is Dangerous : Micro states in a Macro word – Edited by : Sheila Harden , David Davies Memorial Institute of International Studies , Martin’s prees , London , 1985 .