تكاد ان تكون قضية الفساد المالى والادارى فى العراق مشكلة مستعصية, ان الجميع يتكلم, على الصعيد الشعبى تشكل احد اهم المواضيع التى تتعلق باوضاع ومعيشة المواطنين, وكذلك على مستوى الدولة والحكومة والمسؤلين, بشكل عام تشكل ابعادها وعلاقتها فى اداء الدولة والحكومة والاوضاع الراهنة والمستقبلية اهمية كبيرة جدا, خاصة وان كل اعضاء النخبة الحاكمة تتكلم عنها تشكو منها, وليس اخيرا صورة الدولة والحكومة التى تبلورت لدى المواطن ونوع النظرة والثقة التى تكونت مع السنين.
لقد تطور الفساد المالى والادارى فى العراق الى ظاهرة اجتماعية اقتصادية اخذت وتائرها تتصاعد سنة بعد اخرى وذلك وفق منهجية لها اساليبها وطريقها وادواتها. لقد اصبح التجاوز على المال العام لايقتصر على العاملين فى الدولة, من المسؤلين بشكل مباشر وانما كذلك من يتعامل مع الدولة من مقاولين ورجال اعمال, وكذلك مؤسسات القطاع المالى الخاص التى ساعدت على “تمشية الامور” وهذا يشمل الرشاوى او المشاركة فى الصفقات وحتى الاحتيال والتستر. اما عن التجار والمستوردين فهم قد اغرقوا الاسواق ببضائع كان الكثير منها من اسؤ النوعيات بالاضافة الى المواد الغذائية التى انتهت صلاحيات استخدمها, كما ان قيمة البضائع المستوردة لم تكن بحجم المبالغ التى صرفت له بالعملة الصعبة من قبل البنك المركزى( الدولار مثلا). ان هذا الاجراء يعنى تهريب للعملة الصعبة بدلا من ان توظف فى العراق وتفتحح مجالات واسعة للعمل والانتاج. ان عملية السرقة ونهب المال العام فى العراق لها خصوصيتها, انها قد اخذت ارقاما خيالية واخذت فى بعض الحالات تتجاوز مئات الملايين من الدولارات, وفى حالات اخرى حتى الملياردات (مصفى كربلاء ومصفى ميسان وصفقات السلاح).من ناحية اخرى فان تشابك مصالح الفاعلين فى جهاز الدولة والحكومة فيما بينهم, وكذلك الامتداد الى شخصيات فاعلة فى التجارة والمقاولات والبنوك يجعل منها حالة مركبة معقدة, خاصة وان عقدا تكافليا بين فرسان الفساد يحول دون كشف او اعطاء معلومات وبيانات عن مختلف قضايا الفساد والمشاركين بها, وليس هذا فحسب وانما يمكن ان يتعرض الذى “يخون” عقد التكافل الى التهديد والتسقيط ويمكن ان تصل الحالة الى التصفية البدنية. ان هذا النوع من الفساد المالى يشارك فيه “الكبار” من النخبة الحاكمة الذين نتيجة لمواقعهم فى الدولة والحكومة وسهولة الوصول الى الصفقات الكبيرة واتفاقيات التجهيز والتسليح خاصة لوزارتى الدفاع والداخلية, اماالحالة فى بقية الوزارات لا تقل عن سابقاتها فى فرص التمادى فى سرقة المال العام والفرص السريعة للحصول على المال والثروة بجهود بسيطة نادرا ما تلقى المحاسبة والعقاب الموازى لها.
ان موظفى الدولة فى القطاعات الوسيطة الذين يراجعهم المواطنين لمتابعة امرهم وقضاياهم, قد طوروا هم ايضا منهجية لانجاز معاملات المواطنين: ان المواطن امام خيارين, اما ان يدفع للموظف وبذلك تأخد المعاملة مسيرتها الاعتيادية, واما ان يمتنع عن الدفع ويدخل فى نفق مظلم من التاخير والمماطلة وطلب بيانات غير ضرورية بحيث لا تنجز المعاملة الا بعد اسابيع اذا قدر لها ان تنجز, وما تفرزه من الالام وعذابات وارهاق وحتى مشادات كلامية مع الموظف. انها حالة عامة تسرى فى معظم دوائر الدولة. ان فرسان الجهاز الادارى, فى كل مؤسسة او مديرية قد طوروا سلم لاسعار المعاملات, ان كل معاملة لها سعرها, وهذا السعر يرتبط باهميتها للشخص الذى يتقدم بها. ان الاجور التى تدفع للموظف لا يحتفظ بها لوحده وانما تخضع الى تقسيم وفقا للدرجات الوظيفية, هذا ما يدعى به الموظف حينما يكون الدفع قليل فى نظره. ان الامر مشين حقا, ودوائر الدولة اصبحت بالنسبة للمواطن تتماثل مع صورة الحكومة والدولة والثقة المعدومة فيما بينهم والتى اصبحت بحاجة ماسىة للاصلاح.
ان السيد رئيس الوزراء, بعد الانتصارات على تنظيم الاجرام والعنف داعش, اعلن ويعلن منذ فترة انه بصدد العمل فى الفترة القادمة على محاربة الفساد والمفسدين, ويضيف بأن هذه العملية ستكون غاية فى الصعوبة لان الفاسدين والمفسدين حاضرون بيننا, وهذا بعنى ان العملية سوف فى غاية الصعوبة والتعقيد. والسؤال الذى يطرح نفسه بالضرورة, من اين تبدأعملية محاربة الفساد والفاسدين, ومع من سوف تكون البداية؟ هناك ما زالت بالتاكيد شخصيات نافذة فى الدولة والحكومة قامت منذ سنين حولهم شبهات واسعة فى اشتراكهم بعمليات فساد كبيرة, هل سوف تكون الحكومة من الشجاعة والمسؤلية ان تفتح التحقيق معهم, ام سوف يتم التغاضى عنها خوفا من ان تفتح سجلات فضائح كثيرة اخرى لشخصيات اخرى فاعلة ونافذة فى الدولة والحكومة؟. انه الخوف من تحرك كرة التلج التى سوف تشمل اعدادا كبيرة جدا من النخبة الحاكمة.
مما لاشك فيه ان السيد رئيس الوزراء فى موقع لايحسد عليه, انه على علم باوضاع البلد بين حالة تفشى الفساد المالى والادارى وخواء خزينة الدولة والقروض والديون الرهيبة لمؤسسات المال العالمية وبعض الدول العربية والاجنبية التى تكبل مستقبل البلد لعشرات السنين القادمة, والضرورة الملحة فى النهوض بعملية الاصلاح ووقف عملية الهدم والتهرىء من ناحية اخرى. ان نجاح العملية يلزم فهما وادراكا كبيرا واعيا لعملية الفساد المالى والادارى, المنهجية والوسائل والاساليب التى اعتمدتها نخبة الفساد, والتى على ضؤها يمكن ان توضع المخططات لمقاومتها. ان تنجح عملية مجابهة الفساد يجب تامين الاطار القانونى لها والذى ينظيم اسلوب عملها والصلاحيات التى سوف تتمتع بها, وبالتالى نوع العقوبات التى تصدرها المحاكم المختصة.
مع كل الثقة بوطنية واخلاص السيد العبادى لشعبه وبلده فان القضية التى ينوى القيام بها قضية مجتمعية بالغة الاهمية والخطورة, وهى تتطلب ايضا تظافرجهود الخيريين جميعا, ولكن التجربة مع النخبة الحاكمة منذ عام 2003 ليست مشجة بكل الاحوال وقد تضاعف الشك بها وتنامت خيبات الامل بحيث يصعب الاعتماد على الاكثرية منهم. كيف سوف يتم تشكيل اللجان؟ وبأى الشخصيات والاسماء التى ستعمل بها؟ والتى سوف تقوم بطرح اسماء الفاسدين وتقوم بدراسة وتحليل البيانات المتعلقة بقضايا الفساد؟ كيف يمكن التأكيد فى نزاهتهم وامتلاكهم للشجاعة المدنية, التى تؤهلهم للوقوف امام عنف الفاسدين ومؤمراتهم؟ خاصة وقد اصبح الوطنيون والشجعان فى عراق ما بعد 2003 عملة نادرا جدا, واخذ يوصف مثل هؤلاء بالمتخلفين والجبناء.
ان اعادة الثقة, الى حدما, بين الحكومة والمواطن فى اطار عملية محاربة الفساد ان تقوم الحكومة بعملية اولية فى قضية معروفة من سنين واخذت روائحها العفنة تضايق البلدان التى يعيش فيها حاليا شخوصها, بالنسبة الى فاسدين ومحتالين كبار ان يتم تفعيل اجراءات البوليس الدولى وجلبهم الى العراق. اذا قامت حكومة السيد العبادى بهذا الاجراء فانها سوف تسجل مصادقية كبيرة وتنال ثقة الشعب العراقى بكل طوائفه ومكوناته.
ان كل العراقيين الخيريين الوطنيين يحيون السيد رئيس الوزراء ويشدون على يده وعزيمته ويتمنون له ولانفسهم النجاح الكبير.