17 نوفمبر، 2024 7:20 م
Search
Close this search box.

الدولة – هل هي انتقام المخلوق من الخالق؟ / 1

الدولة – هل هي انتقام المخلوق من الخالق؟ / 1

 تمهيد
– خلق الله الإنسان لعبادته ، فتمرد عليه ليتحول إلى ” لعنته ” وخلق الإنسان الدولة لرعايته ، فانقلبت عليه لتصبح سيدته ومضطهدته .
– الإنسان المطرود من الجنة ، كان قد ” طرد” الله من جنتّه الخاصة ، أي نفسه التي ستكون موضع إعجابه الدائم.
–  الدولة الاستبدادية والدولة التوافقية هما الشكلان الوحيدان في التاريخ ، و في الشرق كما في الغرب .
– قد يلعب المكان دوراً في تحديد نوع الدولة ونظامها ، لكنه لايلغي جوهرها .
– النظريات العنصرية التي تؤمن بتفوق جنس على آخر طبقاً للانتماء المكاني أو العرقي ،هي التي حاولت الإيحاء بأن الشرق لم يعرف سوى العبودية والإستبداد .
– لا تصنّف الأمم طبقاً لتقسيم الدولة جهويّاً (شرق – غرب )  بل النظر في سيرورتها التاريخية والأساليب التي اعتمدتها في نظام حكمها .
 قد تبدو صيغة العنوان غريبة للوهلة الأولى ، أو تحمل في طياتها نوعاً من اللامعقول، لأنها تُعدّ بمثابة طرح مغاير لما هو ثابت مطلق ،فكيف يمكن أن يقف الإنسان بكلّ ضعفه وهوانه ، أمام الخالق بكلّ قوّته وجبروته  – ناهيك بالإنتقام منه – تلك موضوعة حسمتها الأديان السماوية حينما جعلت العلاقة  بين الله والإنسان تقوم على مبدأ السيادة المطلقة للخالق ، والعبودية المطلقة للمخلوق ، ذلك مايفترض أن يكون .
لكن المتتبع للسيرورة البشرية وتاريخ النشوء الأول للمعتقدات الدينية ، يجد أن الأمر لم يكن دوماً هكذا ، بل لم يشهد في الواقع الإ فكرة الإنتقام المتبادل بين الله والبشر التي لم تهدأ يوماً ، ذلك مايرويه كلّ من الموروث الديني والتاريخ الوضعي على السواء .
” في البدء كانت الكلمة ” والكلمة في النصّ الديني إن الله أمر الملائكة أن تسجد لآدم ،فسجدوا ، أي نهم مارسوا فعل الخضوع للأمر الإلهي دون أية محاولة للسؤال أو المفاضلة بينهم وبين آدم ، رغم إنهم خُلقوا من نور وخُلق من تراب ، لقد احتفظ الملائكة برمزية طهرهم  كمخلوقات دائمة الخضوع المطلق لله ومن ثم  تأصّل الخير في طبعها.
لكن أبليس – وهو كبير الملائكة قبل التمرد – أبى واستكبر ، طارحاً بوجه ربّه السؤال الذي استوجب اللعنة : خلقتني من نار وخلقت آدم من تراب ، فما سجودي له ؟.
تلك هي لحظة الإنشقاق الكوني الأول بين الخالق والمخلوق ، ومن ثم الإنفصال في الإسقاطات الرمزية ، فإبليس مُنح القدرة على غواية البشر من نسل آدم ومن ثم التسبب في دخولهم النار التي منها خُلق ، ذلك أول الأسرار الربّانية  ، فالنار ستصبح أداة الله في عذاب المارقين ” وقودها الناس والحجارة ” وستغدو  جحيماً ذات سعير – أي معنى النار في أعلى كثافتها وقدرتها وديمومتها – وهكذا أُطلقت يد إبليس في حرف الإنسان عن الطريق السوي ،ثم لتصبح النار وسيلة رادعة من وسوسات إبليس للإنسان في مخالفة أمر الله، فهل كان ذلك عقاب أبدي ؟ أم تسوية تبقى ما أرادها الإنسان الذي صار بإمكانه استحضار الله تارة ، وإبليس تارة أخرى ، أو ربما الدمج بينهما كما فعل في الحضارات القديمة ( الوثنية ) حيث لم تكن ثنائية الإله / الشيطان قد ظهرت بعد (1)  كذلك في الفظاعات التي أرُتكبتْ  بإسم الله وضد الإنسان بعد ظهور الأديان السماوية ،أو حتى في السلوك اليومي للإنسان الذي يستحضر اللعنة كذلك ليوزعها بين الله والشيطان ، لكن في وقت يهدئ فيه لعن الشيطان من غضب الإنسان ويعيده إلى رشده ، فإن لعن الله يزيد من ثائرته ويدفعه نحو ارتكاب الحماقات وفي مقدمها لعنته للخالق ، سواءاً وجهها نحو الربّ في الإنسان الآخر إذا تشاجر معه (*) أو ربّه بالذات في حال تشاجر مع نفسه أو إرتكب خطأ ما ، وإن استغفر بعدها راجياً التوبة  .   
  أن الله  عندما وضع آدم في مرتبة عليا وفضلّه على الملائكة ،كان الإنسان في علاقة الطهر الأولى التي لم تتكرر ،ذلك لأن آدم سرعان ما بدأ بالتساؤل عن سرّ وجوده في جنّة لايسمع فيها سوى أصوات الملائكة على نسق واحد وهي تسبّح بمجد الخالق وشكره ، لكن و لما لم يكن لآدم أن يختلط بالملائكة بعد أن سجدوا له باعتباره أعلى مرتبة في نظر الخالق ، لذا تاقت نفسه إلى من يؤنس وحدته ،فاستجاب الله وخلق حواء مكتملة أستلّها من ضلع آدم  وهو نائم كما تذهب التوراة ،إلا أن وجود حواء إلى جانبه زاد من تساؤله عن مصير التمرد وعّما يفعل هو  وامرأته في ذلك المكان ؟ أما السؤال الأهم الذي سيحدد مصيره اللاحق فكان: لماذا أمره الله أن لا يقرب من شجرة بعينها ؟ ماالسرّ  الكامن في ذلك ؟ 
زحفت الحيّة لإغواء آدم وحواء بمخالفة أمر الله ومن ثم تناول الثمرة المحرمة ” التفاحة ” التي ستوصف بأنها شجرة المعرفة ،ثم قيل بأن إبليس ذاته قد بدأ أولى أعماله متقمصاً الأفعى ، لكن تلك الأفعى ستصبح بدورها رمز الحكمة عند بني البشر ومن ثم تتخذها مهنتي الطبّ والصيدلة رمزاً وشعاراً ، كذلك تجازى الأفعى  بتجديد شبابها كل عام نظير ماقيل عن إنقاذها سفينة نوح من الغرق بعد أن إلتفّتْ داخل ثقب حدث في السفينة ،ذلك ما مايوازي رمزية خلود إبليس كي يستمر في غواية البشر.
تلقّى آدم وحواء عقوبتهما جرّاء مخالفتهما ، فنزلا الأرض وأنجبا ذرّية شرع أحدهما (قابيل )في أول أعمال الإنتقام من الخالق ، فقد قتل أخاه (هابيل ) الأثير عند الله  حيث فضّله عليه متقبلاً قرابينه رغم أنها من مخلوقات الصحراء ، في حين رُفضتْ قرابين قابيل من أثمار الأرض التي ستغدو لاحقاً من علائم الحضارة حيث تذهب سيرورة التاريخ إلى أن الزراعة كانت هي الإكتشاف الأكبر الذي ساهم باجتماع الإنسان واستقراره و من ثم البدء ببناء المدن مع ظهور الحاجة إلى ما سيعرف بالدولة .
مذ نزل آدم الأرض ، ونسله يواصل فعل الإنفصال عن الله ،في حين لم تعد العلاقة الأولى  إلى بدئها أبداً ، ورغم إن الله بعث رسله وأنبياءه لإقناع الإنسان بالعودة إلى إتباع التعاليم  الإلهية “إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِن خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ” فصلت {14} ،ثم الدمار الشامل الذي ألحقه الله بالإنسان حينما أرسل عليه الطوفان ليمسح الأرض مما لحق بها من طغيان البشر” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيْهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِيْنَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) (العنكبوت: 14) كذلك تدمير مدن بأكملها كما جرى في عاد وثمود :(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ{6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8}(سورة الفجر).- أو سادوم وعامورة في التوراة “فامطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء وقلب تلك المدن ” (التكوين – 20)
أن الإنسان المطرود من الجّنة ، كان قد “طرد ” بدوره الله من “جنتّه” الخاصّة أي نفسه التي ستكون موضع إعجابه الدائم ،لذا بقي على تمرده  الأول بل وزاد عليه . 
لكن المفارقة أن حياة الصحراء حيث هابيل ، بقيت مرافقة للحرية في علاقتها مع الله والدولة من جهة ، ورمزاً للبدائية من جهة أخرى مع اعتماد أهلها على (قرابين هابيل ) من الماشية وما تدّره ، لذا كان سكان الصحراء يتمردون بعنف أو يخضعون بإكراه ، لكنهم في كل حال عرفوا ” التوافقية ” في أحلافهم ، ولم يذكروا الدولة في أعرافهم ،وفيما كان لمقتل هابيل الفعل الرمزي الأول لما ستعانيه الحرية من قتل متواصل ، يصبح قابيل رمزاً للإنتقام الأكبر من الخالق بواسطة الأداة الأكثر فتكاً ” الدولة ” التي خصّتْ نفسها باحتكار القتل سواء حرباً أو قمعاً أو قانوناً – والدولة منتوج بشري مثلتْ جريمة قابيل إسقاطه الرمزي الأول – لذا لاغرابة أن تظهر الديانات في المدن أولاً ، تماماً كما الدولة  .
لقد خلق الله الإنسان ليقوم بعبادته ” وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون ” لكن الإنسان تمرّد على خالقه ليصبح لعنته ، وخلق الإنسان الدولة لتسهر على رعايته ، فانقلبت عليه لتصبح سيدته ومضطهدته ،وفي وقت تبقى لعنة الله لمخلوقه الإنسان ذات أثر مؤجل ” إلى يوم يبعثون ” فيما ” إنتقام” الإنسان من خالقه يأخذ بُعداً رمزياً تجاه الخالق وفعلياً تجاه مخلوقاته(2) فإن انتقام الدولة من ” خالقها ”  الإنسان يتخذ شكلاً  جسدياً ( السجن / التعذيب / الحرب / الحرمان من الحقوق / النفي / القتل – الخ )  ومضموناً تدميرياً لروح الإنسان وعقله ، في المقابل ينتقم الإنسان من مخلوقه ” الدولة ” بالتمرد على ماتضعه من قوانين وصولاً إلى الثورة ضدّها ، وهكذا دخل الإنسان طور الإنتقام من خالقه ومخلوقه على حدّ سواء – وإن اختلفت طرائق التعبير – لقد كانت علاقة الدولة بالإنسان أشبه بحجر ومقلاع ، تقذفه بمقلاع ظلمها فيرّد عليها بحجر ثورته  .
ولما كانت الدولة منذ نشوئها الأول ، قد ارتبطت بمفهوم القوّة والقسر والغلبة، لذا فإنها ظهرت  على الدوام  بصورة ” عرقطائفية ” – حسب ما يطلقه البعض في وصفها – وسواء نشأت في الشرق ( الأكدية – الآشورية – الفارسية – الخ ) أو في الغرب ( الإغريقية – الرومانية – الجرمانية  وسواها ) ، بل حتى دول المدن أو المقاطعات في التسمية الواحدة ( إسبارطة – أثينا – مقدونيا ) من بلاد الإغريق ، أو في بلاد الرافدين ( أريدو – أوروك – لكش – الخ (3) فإنها اعتمدت كذلك على الصيغة ذاتها ( العرقطائفية ) بمعنى ما ، لذا اندلعت حروب طاحنة بين أثينا وإسبارطة و تحالفات كلّ منهما مع أعراق وطوائف مشابهة، كما اشترطت أثينا أن يكون المواطن من أصل أثيني حصراً ليكون حرّاً بالمقابل، ومن ثم يحقّ له المشاركة في القرار السياسي ، أما سوى ذلك من  الأغراب مهما بلغ شأنهم أو مدّة إقامتهم في المدينة، فهم محرومون من الحقوق السياسية وبالتالي يمنعون من المشاركة في صنع القرار ( التوافقي ) ، وقس على ذلك في بقية الشعوب وما أقامته من أشكال الدولة طوال أزمنة ما قبل الميلاد التي ازدهرت فيها الدولة الإستبدادية لأكثر من ثلاثة آلاف عام لم تقتصر فيها على الشرق وحده ، لكن أرسطو حين تحدث في القرن الرابع ق/ م عن الإستبداد الشرقي وميّز على أساسه بين الشعوب الغربية التي خلقت للسيادة ، والشعوب الشرقية التي خلقت للعبودية ، إعتمد في ذلك على مانقله جنود الإسكندر عمّا شاهدوه من تقديس الفرس لملوكهم ،والمصريين لفراعنتهم ، والهنود لأباطرتهم ، فيما شرائع وقوانين سومر وبابل التي تدلّ على مجتمع يفوق اليونان حضارة وتطوراً ، كانت قد تعرضت للإندثار بفعل الغزو الفارسي قبل ذلك بثلاثة قرون .
عندما ظهرتْ الديانات السماوية ، لم تخرق في الجوهر تلك القاعدة ، فقد أقام ملوك إسرائيل ممالكهم على أساس ديني / طائفي ، باعتبارهم الشعب المختار من الله ، وفي المسيحية ،نظر بعض اليهود إلى المسيح باعتباره الملك الجديد الذي سيعيد بناء مملكة داوود ، ومن ثم يخاطب المرأة الكنعانية التي طلبت منه شفاء إبنتها ” إنما بعثت لخراف إسرائيل الضالّة ” ثم ينهرها قائلاً :” إن خبز الأبناء ينبغي أن لايعطي للكلاب ” كما ورد في إنجيل متّى .
حينما جاء الإسلام ، نزل الدستور الأول لدولته القادمة  ” القرآن ” بلسان عربي مبين” أنّا أنزلناه قرآناً عربياً “بل وبلسان قرشي كما يذهب بعض الباحثين ، وبعد انتشار الرسالة ومن ثم وفاة الرسول ، حسمت ” العرقطائفية ” القرشية الأمر في إقامة دولتها الخاصة رافضة مبدأ التوافقية الذي عرضه الأنصار ” أمير منّا وأمير منكم ” ثم لتستمر الدولة بهذه الصفة بل وبتسميات أكثر حصرية لبطون من قريش ، وهكذا اقتصرت الدولة التي يفترض ان تكون إسلامية على دولة طائفية عرقية بامتياز “الدولة الأموية ،ثم الدولة العباسية ” وبعد أن دخلت الإسلام أعراق أخرى قويت شوكتها فنازعت قريش الخلافة إلى أن استأثرت بها وكان أن ظهرت إلى الوجود الدولة العثمانية وبالتزامن معها الدولة الصفوية ، كذلك كانت دولة المغول ودولة التتار وغيرها،وفي العصر الحديث ظهرت الدولة النازية اعتماداً على مقولة الجنس الآري ( من أصول جرمانية ) والفاشية الإيطالية باعتبارها وارثة مجد روما   – وهكذا .
(1): المفارقة أن كلمة الشيطان استخدمت عند الإغريق ربطاً بالمعرفة ، ومن ثم انتقلت إلى شعوب أخرى مرفقة بالفن أوالإبداع أوالمرح ( شيطان الشعر ، شيطان الفن ، شيطان المرح – إلخ )  
(*):(يلعن إلهي – يحرق ربّك – ألعن ربّه – يلعن دينك – وماشابه ) تلك هي المفردات المتداولة في الحياة اليومية للناس .
(1) : تمثل الأعمال الإنتحارية ذروة إنتقام المخلوق من الخالق ، فالإنتحاري على استعداد لقتل الأطفال وهم أحباب الله كما في كلّ الموروثات الدينية والإنسانية مذ خُلق البشر ،كما أن عمله يُعدّ أقصى حالات التأرجح بين الشكّ بالله واليقين بوجوده  ، ولما كان الإنتحاري أكثر الناس قلقاً وتوتراً في هذا الجانب ، لذا يتجه إلى حسم الشكّ بقتل نفسه والآخرين ، أما إذا تغلّب يقينه على شكّه ، فإنه يمتنع عن الإنتحار – بعكس مايروجه فقهاء الشرّ- .

(2): يُذكر في هذا الصدد تجربة ملوك الطوائف في الأندلس ، فتلك الممالك تقع في الغرب من حيث الجغرافيا ، لكنها تنتمي إلى الشرق من حيث التقاليد القبلية العربية  .

الحلقة 2 بعنوان : طقوس العبادة – شكّ بالخالق أم تقربّاً منه ؟

أحدث المقالات