23 ديسمبر، 2024 3:39 ص

الدولة تعتقل تأريخنا .!

الدولة تعتقل تأريخنا .!

الإعتقال او القاء القبض هذا لم يسفر الى الإبقاء على ” التوقيف ” , وانّما إحالة الى قواويش السجون ومن دونِ محاكمةٍ ولا قضاء , كما أنّ مدة السجن غير محددة بمدّة , وتستمر الى ما بعد الأحكام المؤبدة , ويبدو انها ستتأبّد الى أبد الآبدين .!

إعتقال التأريخِ هذا وزجّه خلف القضبان , لم يكن بعد عام 2003 , ولا في الشهر السابع من سنة 1968 , ولا حتى بين هاتين الفترتين , لكنما يمتد الى ما قبل 14 تموز 1958, وسيبقى ويدوم.

في عهد النظام السابق وما قبله ايضاً , كانت إحدى الدوائر التابعة لوزارة الإعلام وتسمى ” المركز الوطني للوثائق ” , وفي سنوات الحصار جرى دمجها مع دائرة ” المكتبة الوطنية ” وجرى توحيدهما بعنوان ” دار الكتب والوثائق ” , وشتّان بين علم المكتبات والعلوم الوثائقية ! لكنّ ميزانية الدولة آنذاك فرضت ذلك.

دائرة الوثائق هذه ” كما يعبّر عنها أسمها ” تضم ملايين الوثائق المتعلقة بشتى التخصصات والشؤون , كوثائق العراق بزمن الدولة العثمانية والأحتلال البريطاني , والمراسلات السياسية بين الحكومات العراقية والحكومات الشاهنشاهية السابقة في ايران , وكذلك المراسلات مع العديد من حكومات الدول العربية من قبل استقلالها , وما اختزله هنا بهذا الصدد قد لا يشكّل % 1 من مواضيع تلك الوثائق بما فيها عمليات التوثيق الأداري المستمرة لمراسلات دوائر الدولة , لكنّ ما مثير للسخرية والقهقهة الشديدة , هو حجب ومنع المواطنين من الإطلاع على تلك المعلومات التأريخية التي غدت expired , بأستناء السماح للباحثين وطلبة الدراسات العليا بذلك وبشرط حصولهم على كتاب موافقة من وزارة التعليم العالي !

وباستثناء ذلك الأستثناء , فأنّ المعلومات التي تحتويها تلك الوثائق تبقى سريّة ومحجوبة عن وسائل الأعلام والمواطنين بالرغم من عدم وجود اية معلومات سرية عفا وشرب عنها الدهر.! وبالرغم ايضا من وجود مصلحة وطنية واكاديمية واجتماعية وسياسية في كشف ما مخبّئ في خزّانات الوثائق .

شخصيّاً , قد يغدو من الطريف او اعدمه أن اشير الى أني قبل نحو ربع قرنٍ من الزمن , كان عليّ أن اطّلع على بعض الوثائق ذات العلاقة بالتأريخ القريب , واثناء تصفّحي لتلكنَّ الوثائق , وقعت عيناي مصادفةً على وثيقة مرسلة من الأستخبارات البريطانية الى السفارة البريطانية في بغداد تفيد بمراقبتهم لنجل الشيخ خزعل ” أمير المحمّرة والأحواز ” آنذاك ” وهو يتردد على اماكن مشبوهة في البصرة .! وهذه الوثيقة كان يمكن لأيّ إمرءٍ الإطلاع عليها في ” دار الوثائق البريطانية – THE NATIONAL ARCHIVES ” في النصف الأول من القرن الماضي .!

وحتى ” دار الوثائق البريطانية ” تكشف بأنتظام عن الوثائق البالغة السرية بعد مرور 30 عاماً عليها اذا لم تكن تهدد اشخاص او مسؤولين لا يزالون على قيد الحياة , بينما الكشف عن الوثائق الأمريكية يتم بعد مرور 20 سنةٍ عليها , لكنه في العراق فيبدو أنّ الكشف على الوثائق القديمة سيكون بعد مرور ثلاثة آلاف سنة على صدورها , اذا ما صدرت فتوى ادارية او رئاسية على ذلك.

والى ذلك , فهنالك وثائق محفوظة تتعلّق بالأنقلابات والثورات التي حدثت في العراق وعلاقاتها ببعض الدول العربية والأجنبية , لكنها الى الآن ممنوعة من النشر والأطلاع من دونِ سببٍ , بل حتى الوثائق المتعلقة بالماسونية والصهيونية فلا تزال ترقد مغمى عليها , وتجدر الأشارة الى أن الموساد الأسرائيلي وبمساعدة القوات الأمريكية وعملاء عراقيين قد تمكنوا من سرقة العديد من الوثائق الخطيرة والفريدة والبالغة الأهمية منذ الأيام الأوائل للأحتلال في عام 2003 .

حجب المعلومات التأريخية والقديمة والتي لاتضرّ أحداً , لا يمكن تفسيره إلاّ بالتصخّر والتحجّر الفكري , وكذلك بالغباء المفرط .! والغريب أنّ المسؤولين والكوادر العاملة في المركز الوطني للوثائق < وعلى مدى الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق , فَلم يفكّر أحدهم بتحريك قضية عرض المعلومات الوثائقية على الجمهور , ولا نشرها في الصحف المحلية .!

ونعتقد هنا أنّ هذه المقالة سيكون مصيرها المحتّم كمصير تلكم الوثائق المغطاة بغبار السنين .!