سوء التصرف في الموارد المالية تجلى في أن الديون المجنية من الاقتراض لا تخصص لإقامة المشاريع الكبرى من أجل إنتاج الثروة وتشغيل العاطلين وتهيئة البنية التحتية الملائمة للاستثمار وتخفيف وطأة الشحن الاجتماعي، وإنما للأجور والاستهلاك.
تزامن تخفيض تصنيف تونس الائتماني الّذي أعلنت عنه وكالة “فيتش” مؤخرا مع توجّه كلّ من وزيرة المالية التونسية لمياء الزريبي ومحافظ البنك المركزي الشاذلي العياري، إلى السوق المالية الأوروبية بحثا عن تعبئة الموارد المالية للدولة بما قيمته مليار أورو كانت محتسبة ضمن الميزانية التي عرضتها الحكومة على مجلس نواب الشعب، وصـادق عليها مـوفى السنة الماضية.
بينما لم تعرض الحكومة إلى اليوم الميزانية التكميلية لسنة 2016 والتي من المتوقع عرضها بالتزامن مع الميزانية التكميلية لــ2017. وهو مـا يعني أن الدولة في حاجة إلى توفير موارد مالية إضافية لسد احتياجات والتزامات تمت برمجتها خـلال السنة المنقضيـة، دون توفير مـا يلـزمها من اعتمادات مالية، والأمر نفسه منتظر خلال النصف الثاني من السنة الجارية.
وهذا دليل على التسرع والارتجال في التعامل مع إدارة الدولة، ما يجعل إدارة الشأن العام في خطر إذ يقع الإعلان عن إقامة مشاريع يستبشر بها المواطنون دون أن تكون لها اعتمادات مخصصة. بل الأخطر أن تضع الحكومة نفسها في مواضع أبعد عن المغامرة وأقرب إلى التهور حين تكون حتى أجور الموظفين مهددة بعدم الخلاص نظرا لفقدان السيولة المالية الكافية وانعدام فرص التداين من الداخل.
وأمام استمرار الـدولة في خيارات التداين الأجنبي يكاد يكون من شبه المستحيل أن يتمكّن أحد من ضبط حجم الديون التي تلقتها الدولة التونسية منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي إلى اليوم ومن معرفة المسالك التي صرفت فيها. فدائرة المحاسبات في تقريرها الأخير رصدت كتلة من الأموال التي اختفت من ميزانية الدولة في عهد الترويكا التي قادتها حركة النهضة. وإلى اليوم لا توجد إجابة عن مصير تلك الأموال.
والدولة تتراخى عن أداء دورها في المساءلة والمحاسبة وإعادة أموال الشعب. وهو ما يعني تخاذلها عن حفظ الأمانة التي ائتمنها عليها الشعب التونسي. فلكأن الحلف السياسي أقوى من الأمانة، ولكأن المشاركة في الحكم تحصن صاحبها من المساءلة والتتبع والمسؤولية. ويستمر مسلسل الاستهتار بالدولة وبإدارة الشأن العام.
وكل نواقيس الخطر يجب أن تدق في تونس حين نعرف أن نسبة التداين لم تنخفض دون 40 بالمئة منذ 1987 بما أوقع الميزان التجاري في عجز مستمر، إذ لم تتجاوز نسبة التغطية 76 بالمئة. وقد قفزت الديون لتتجاوز عتبة 60 بالمئة من حجم الناتج المحلي الخام لتحتل تونس بذلك المرتبة الثامنة من بين الدول العربية الأكثر مديونية بحجم ديون يتجاوز 27 مليار دولار، في الوقت الذي لا تتجاوز فيه ميزانية الدولة لسنة 2017، 15 مليار دولار. بما يعني أن حجم ديون تونس بلغ تقريبا ضعف ميزانيتها.
والأخطر من حجم الديون هو وجهتها، إذ أن تونس دخلت في نفق من سوء التصرف لم تستطع الخروج منه لسببين؛ الأول هو ضعف الحكومات المتعاقبة وبالتالي ضعف الدولة وعجزها عن إدارة المشاكل الاجتماعية والمطالب المنجرة عنها، والثاني غياب رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة للدولة وللحكومات والأحزاب التي شكلتها منذ سقوط نظام بن علي إلى اليوم إذ أن جميعها تواصل المراهنة على خيارات وسياسات بن علي نفسها منتظرة نتائج مختلفة.
فالصورة الحاصلة عند حركة النهضة وحركة نداء تونس اللتين تتوليان الحكم بالتقاسم أن العيب لم يكن في الخيارات القديمة، وإنما في الفساد في الإدارة والدولة. والحاصل أن الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي ثار ضدها الشعب التونسي تستمر، والفساد يتضاعف ويخرج من السر إلى العلن ومن الظلام إلى النور والأوضاع تتعفن.
سوء التصرف في المـوارد المالية تجلى في أن الديون المجنية من الاقتراض لا تخصص لإقامة المشاريع الكبرى من أجل إنتاج الثروة وتشغيل العاطلين وتهيئة البنية التحتية الملائمة للاستثمار وتخفيف وطأة الشحن الاجتماعي، وإنما للأجور والاستهلاك. ففي مـقابل تضخم حجـم الـديون وارتفاع نسبتها قياسا إلى الناتج المحلي الخام لا يوجد أثر لها في التنمية الجهوية والمحلية، ولا يستطيع مسؤول في الدولة أن يضبط مآل هذه الأموال الضخمة بدقة.
هذا الواقع خلق نوعا من التباعد، بل القطيعة، بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ويتجلى ذلك في تفاجؤ مجلس نواب الشعب بإصدار الحكومة التونسية لأوامر ترتيبية متعلقة بالتنمية الجهوية تخالف ما وقعت المصادقة عليه من قبل الائتلاف الحكومي نفسه أثناء مناقشة ميزانية 2017 إذ وقع استثناء جهات بعينها مثل المهدية والقيروان من حصتها في التنمية دون تبرير. وهو ما سيخلق توترا اجتماعيا واحتقانا منذرا بالمخاطر ويجعل هذه الدولة المديونة مدانة بسوء التصرف في الديون وفي تصريفها على ما جعلت له.
كما يدور الحديث في لجنة المالية بمجلس نواب الشعب عما يسميه رئيس هذه اللجنة المنجي الرحوي فضيحة متصلة بالأمر الحكومي الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 31 يناير 2017 الذي يضبط شروط الانتفاع ببرنامج المسكن الأول بالنسبة إلى المواطن التونسي. ومن جملة المؤاخذات على هذا القانون أن الدولة ستضخ ما قيمته ألف مليار دينار لقطاع البعث العقاري وهو قطاع رابح في تونس ولا يحتاج إلى تدخل الدولة من جهة، وإلى حصر الباعثين العقاريين المستفيدين من هذا البرنامج ومن تدخل الدولة في 36 باعثا من جملة حوالي 1400 باعث في تونس.
وتعتبر لجنة المالية بمجلس نواب الشعب أن في هذا القانون شبهة فساد ومحاباة وتضارب مصالح وإهدار للمال العام وسوء تصرف في الموارد المالية. وعليه تمت دعوة وزيرة المالية ووزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية للمساءلة في مجلس نواب الشعب، وإحالة الملف إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
وأمام العجز المذهل للدولة في مقاومة الفساد الذي ينخر الاقتصاد ويلتهم المالية العمومية، وبعد انتظار طويل وتعطيلات شتّى، لمعت نهاية الأسبوع المنقضي نقطة ضوء في آخر النفق تمثلت في استعداد مجلس نواب الشعب لمناقشة قانون حماية المبلّغين عن الفساد أملا في المصادقة عليه الأسبوع الجاري، وهو ما كان سيعدّ أهمّ انتصار للقوى الحيّة والتقدّمية في تونس على مافيات الفساد والإفساد المتحكّمة في دواليب الإدارة والاقتصاد. ولكن تفاجأ الجميع بتأجيل هذا الموضوع بعد مسارعة الحكومة إلى سحب القانون.
نقلا عن العرب