قطعا، المرجعيات الدينية مدركة لأهمية قيام الدولة المدنية في العراق حتى قبل ان تطلق الدعوة لها، من النجف الاشرف، بوقت طويل. ربما يعود التأخير الى حرص السيد السيستاني على النأي بمرجعيته عن الشأن السياسي عدا منعرجاته المفصلية، وقد جاءت أخيرا لتصب، كتحصيل حاصل، في صميم مشروعنا المدني الذي تبنته حركة الوفاق الوطني العراقي وزعيمها الدكتور اياد علاوي منذ ماقبل التغيير واصطدم تاليا بإنكار جماعات الاسلام السياسي التي حالت، باستبدادها، دون بلوغ البلد محطات مهمة في الاستقرار السياسي والامني والاعمار والتنمية .
اللافت ان اصداء هذه الدعوة في الشارع، والتي عكستها جرأة شعارات المتظاهرين ضد ادعياء الدين، لم تحث الكثير من قوى التيار المدني على اغتنام الفرصة هذه، والمعززة بخطاب المرجعية العليا، لتأكيد صحة متبنياتها الفكرية والسياسية واضعاف موقف قوى الاسلام السياسي المتشددة والتي، رغم حراجة وضعها الراهن، لم تدخر وسعا في المسارعة الى الخداع لحرف خطاب المرجعية وهتافات الجماهير الغاضبة بعيدا عن مقاصدهما الواضحة.
فشل قوى المشروع المدني في توظيف اللحظة السانحة، والمسبوق قبلا بفشلها الستراتيجي في التنسيق وقيادة التيار المدني الى المواجهة في اطار متماسك، ربما يعود الى خشيتها من منافسيها في المعسكر الآخر، والذين لايزالون قابضين على معظم مصادر القوة، من سلطة ومال وسلاح من جانب، والى غياب عنصر المناورة عن خططها السياسية من الجانب الاخر، فخلافا لما كان منتظرا منها عمل فصيل سياسي عقائدي محسوب على التيار المدني
بكل السبل ، وبطريقة القيادة من الخلف، على استعداء الجماهير المنتفضة وتحريضها على باقي الفرقاء المدنيين الاساسسين وقياداتهم، بغية حرمانهم من الحضور الفاعل في ساحات التظاهر، كمثال صارخ على ضيق الافق والانانية الملازمة للعمل السياسي لبعض قيادات المشروع المدني ممن سوقت نفسها اعلاميا كقيادات جماهيرية، وكبديل وحيد، فإرتكبت خطأ قاتلا بمحاولة جر الاحتجاجات الى دائرة تحقيق مكاسبها السياسية الخاصة دون محاذرة القوع في الفوضى او الخروج على جوهر المطالب المشروعة والقابلة للتحقيق، وهو سلوك ماكان ينبغي ان يحصل.
لقد ارتبط مفهوم الدولة المدنية في التصور العام ، ولفترة طويلة، بمعاداة الدين ، وهو مااثار ويثير مخاوف قطاعات واسعة من الجمهور في العالم الاسلامي ، بايمانها البسيط وثقافتها السياسية المتواضعة ، كما ان انظمة الحكم العسكرية الاستبدادية والقومية القمعية والفاشية ، بكل جرائمها ، قد مارست السلطة زيفا تحت لافتة الدولة المدنية ، وهنا تجلت الحاجة الى بلورة صيغة توضيحية للدولة المدنية تكون اكثر شمولية وموائمة مع واقع الدولة العراقية الوطنية، بتعدديتها القومية وتنوعها الديني والمذهبي والثقافي، تحقق القيم المدنية من جانب، وتطمئن هواجس المشككين من الجانب الآخر، فكان مشروع ” دولة المواطنة ” الذي تبناه السيد اياد علاوي ويرتكز على تأكيد العناصر الاساسية في الدولة المدنية من مساواة وعدل وحرية، اذ ان هذه القيم ، بضبط حركتها ضمن اطار مؤسسي وبإيقاع من سيادة القانون، تضمن وجود دولة مدنية ﻻتضع نفسها خصما للدين والمعتقدات والشعائر من جهة ، وتمنع الانزلاق نحو الدكتاتورية والاستبداد والطائفية والتمييز والكراهية والاقصاء من جهة ثانية.
ان اقرار اكبر واهم مؤسسة دينية في العراق بالدولة المدنية يمثل انتصارا كبيرا للسيد علاوي وباقي القوى المدنية، وهو ثمن تضحيات عظيمة فتحت الباب على فرصة تاريخية لاينبغي على الشارع المدني وزعاماته السياسية والاجتماعية اضاعتها مثل عديد الفرص المهدورة والمضاعة من قبل القوى المدنية المختلفة والتي لم تنجح حتى الان في لم شتاتها والخروج من دائرة ضعفها وتنازعها المزمن على القيادة.