23 ديسمبر، 2024 5:58 ص

الدولة الكردية .. وتقسيم العراق

الدولة الكردية .. وتقسيم العراق

أولى خطوات تقسيم العراق كانت مبكرة جداً.. فقد تحرك الأكراد دولياً لتثبيت حقوقهم كشعب.. وطالبوا بتقرير المصير من خلال مؤتمر سيفر العام 1920 الذي ناقش موضوع العراق والانتداب.. ويبدو إن المؤتمر لم يستجيب لمطالبهم باعتبارهم جزء من العراق.. وما يتحقق للعراق يتحقق لجميع مكونات شعبه ..
وهكذا تشكلت حكومة عراقية مؤقتة تحت الرعاية البريطانية.. وتم الاتفاق على ترشيح الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكاً على العراق.. وجرى استفتاء العام 1920على مبايعة فيصل من قبل كل المواطنين العراقيين.. لكن الأكراد العراقيين لم يشاركوا في الاستفتاء.. وعلى الرغم من ذلك فأن كل ما تحقق للعرب والمكونات الأخرى تحقق للأكراد بضمنها المشاركة في الحكم ..
في 29 تشرين الثاني 1936 قام الفريق بكر صدقي معاون رئيس أركان الجيش العراقي.. وهو كردي بانقلاب عسكري في بغداد.. ونجح الانقلاب تحت شعارات الديمقراطية.. لكن لم تمضي أشهر حتى أقام صدقي حكماً دكتاتورياً.. بالمقابل يبدو إن الأمنيات والأفكار أخذت تنتعش لإقامة دولة كردية في منطقة كردستان العراق.. لكنها لم تتحقق لاغتيال بكر صدقي بعد أقل من عام وانتهاء انقلابه ..
استثمر الأكراد الحرب العالمية الثانية ليعلنوا ثورتهم العام 1943 التي قادها الملا مصطفى البارازاني وعشيرته في منطقة برزان.. واستطاع الجيش العراقي القضاء على هذه الحركة العام 1945.. وهرب الملا مصطفى وحوالي 700 برزاني إلى إيران ومن ثم إلى الاتحاد السوفيتي.. التي أقاموا فيها كلاجئين سياسيين.. ولم يعد هناك قلاقل في شمال العراق.. وكان العرب والأكراد والمكونات الأخرى يتقاسمون العيش بحب.. وكذلك في إدارة الدولة ..
وجاء دستور ثورة 14 تموز 1958 لينص على: (إن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن).. وعاد الملا مصطفى البارازاني وجماعته إلى بغداد.. ومنح الزعيم عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء).. رواتب مجزية لهم.. وأسكن الملا مصطفى البارازاني في القصر الملكي (قصر الرحاب).. ومنحه سيارة الأمير عبد الإله ـ الوصي على العرش ـ ومنح الأكراد حرية العمل السياسي.. فنشط (الحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني) في الشمال وفي بغداد والمحافظات العراقية.. وصدرت جرائد لهم باللغتين العربية والكردية (خه بات ..التآخي وغيرها).. وشكلوا ميليشيات عسكرية..(البيشمركة) .. وساهموا في السلطة بقوة ..
ومنذ أيار 1960 بدأ تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.. ووقف الإقطاعيون في وسط العراق وجنوبه ضد تطبيق هذا القانون.. وأحدثوا فوضى في البلاد.. كذلك وقف الأغوات الأكراد ضد تطبيق القانون في كردستان.. ليتطور الرفض الكردي الى مطالب وحقوق في مقدمته سحب الجيش من شمال العراق.. فبدأت المناوشات بين الأكراد والجيش العراقي بدفع ودعم قوي من الأغوات الأكراد لتندلع الحرب بين الطرفين ..
وفي أوائل العام 1963التقت بعض القيادات الكردية بقيادة الملا مصطفى البارازاني في شمال العراق مع وفد من حزب البعث.. وتم الاتفاق على قيام الحركة الكردية بمنع تحرك أية وحدات عسكرية عراقية من الشمال إلى بغداد لدعم عبد الكريم قاسم عند قيام الانقلاب.. مقابل منح البعثيين حقوق الأكراد.. وسقط نظام عبد الكريم قاسم.. ولم يفي حكم البعث بوعوده للأكراد.. فاندلعت بعد شهور الحرب بين الطرفين وبشكل عنيف لم تشهده المنطقة سابقاً ..
ـ وفي عهد الأخوين عارف (تشرين الثاني 1963 ـ تموز 1968).. استمرت حالة الحرب واللا حرب بين الحركة الكردية والحكومات العراقية المتعاقبة.. وفشلت كل الاتفاقيات بين الطرفين.. حتى جاء اتفاق العام 1970 بين البعث والحركة الكردية بمنح الحكم الذاتي خلال أربع سنوات.. وطبقت كل فقرات الاتفاق.. لكن الكرد رفضوا تنفيذ آخر بند إعلان الحكم الذاتي في 11 آذار 1974.. وطالبوا بضم كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي.. فاندلعت الحرب من جديد.. وجاءت اتفاقية الجزائر لعام 1975 بين إيران والعراق.. التي تنازل صدام فيها عن نصف شط العرب إلى إيران.. مقابل عدم دعم إيران للبرازاني.. (أتذكر حادثة خطيرة بالنسبة ليً ـ أنا كاتب هذه المقالة ـ حيث كنتُ طالب ماجستيرـ وقد حضر حسن العامري القيادي في حزب البعث ـ وعقدً اجتماعاً مع أساتذة وطلاب الدراسات العليا في كلية العلوم السياسية ببغداد لشرح أبعاد اتفاقية 1975.. ومما قاله العامري: “إن الجيش العراقي لم يعد يملك سوى قنبلتين.. وإذا عرفً الأكراد ذلك سوف يعلنون انفصالهم ـ لهذا تم توقيع هذه الاتفاقية مع إيران”.. لكن ذلك لم يثنيني من الرد عليه وقلتُ له: (إن هذه الاتفاقية دولية ولا يمكن إلغاءها من طرف واحد.. في حين انفصال الأكراد شأن داخلي يمكن معالجته داخلياً”.. وهكذا خسرً العراق نصف شط العرب بلا مبرر.. وبقيً الأكراد جزء من الشعب العراقي) ..
استغلً صدام الحرب مع إيران (1980 ـ 1988).. ليقوم بعمليات قذرة ضد الشعب الكردي في كردستان.. حرب الإبادة الجماعية.. والأرض المحروقة.. وعمليات الأنفال.. بقصف بعض المدن الكردية بالسلاح الكيمياوي فأحدث مجاز رهيبة ضد الأكراد.. كل ذلك لم يؤثر على العلاقات الصميمية بين الشعب العراقي بكل مكوناته ..
المهم: بعد حرب الخليج الثانية العام 1991 وتحرير الكويت.. استطاع الأكراد بدعم دولي إقامة الحكم الذاتي بعيداً عن سلطة بغداد.. وفرضت الأمم المتحدة حظراً جوياً وبرياً على القوات العراقية باجتياز خط العرض 36 ومنعت تدخل حكم صدام بالشأن الكردي ..
كردستان بعد 2003 :
تضمن دستور العراق لعام 2006 فصل كامل عن إقليم كردستان.. ومنحه حقوقاً أكبر من حقوق وواجبات الحكومة المركزية.. وفي حالة الاختلاف بين الإقليم والمركز.. فتفسر الأمور وفق الفصل الخاص بإقليم كردستان بالدستور العراقي.. وهكذا أصبحت كردستان شبه مستقلة دستورياً وقانونياً عن الحكومة الاتحادية.. مثلما هي مستقلة أمنياً وعسكرياً من خلال قوات البيشمركة الكردية والاسايش ..
وكان للحرب الطائفية في العراق العام 2007 انعكاس سلبي كبير بين أبناء الشعب العراقي حتى بين العرب والأكراد.. وعلى الرغم من وأد هذه الحرب الطائفية.. فأن سلبياتها انعكست على العلاقة بين العرب والأكراد بشكل كبير ..
لتبدأ حكومة كردستان العمل عملياً للانفصال وإيجاد المبررات لذلك.. ولابد أن نشير هنا إن رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني السابق زار كركوك خلال ولايته ثلاث مرات.. أعلن في الزيارة الأولى: أن (كركوك قدس كردستان).. وفي الثانية قال: (إن كركوك كردستانية).. ولم يقوم مجلس النواب باستضافة الطالباني لتوضيح هذه التصريحات المخالفة للدستور العراقي ..
وجاء مشروع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في نيسان 2013 لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم (كردي.. وسني.. وشيعي).. ورفض المشروع بقوة من قبل السنة والشيعة الذين أصروا على وحدة العراق.. فيما كان موقف الكتل الكردستانية بين مؤيد بشكل علني للتقسيم.. وبين موقف غير واضح ..
وبدأت الدعوات من قبل حكومة كردستان للاستفتاء بتقرير المصير.. وأخذت العملية تتوسع بشكل انفصالي تماماً بعد احتلال داعش للموصل في 10 حزيران 2014.. وكركوك وديالى وصلاح الدين والانبار.. ومعظم المناطق المتنازع عليها بين العراق والإقليم وفق المادة 140 من الدستور العراقي ..
وانطلقت شعارات وتصريحات من القيادات الكردية بأن المناطق التي تحررها قوات البيشمركة من داعش ارض كردستانية.. وفعلاً تدار المناطق المحررة من قبل كردستان.. لقد أكد رئيس إقليم كردستان مسعود البارازاني: (إن من حق الأمة الكردية أن تخطو الخطوة الحاسمة في الحصول على استقلالها.. لكن الظروف الحالية لن تسمح لها بضمان هذا الاستقلال).. مؤكداً (اهتمام كردستان بحل هذا المسألة حلا سلمياً وبخوض حوار مع بغداد حولها).. وهنا يعترف البارازاني إن الظروف الحالية (المحلية والدولية لن تسمح بقيام كيان كردي لا في العراق.. ولا في المنطقة).. لكنه عاد مؤخراً لتأكيد إقامة الدولة الكردية.. فخلال جولته الخارجية الأخيرة صرح: ( لنا دولة ستعلن قريباً) ..
وأخطر تصريح صدر مؤخراً لمسرور البارازاني رئيس مجلس الأمن في إقليم كردستان لجريدة الواشنطن بوست جاء فيه: (انه من الآن وصاعداً نحن لسنا مواطنين عراقيين.. ولا توجد أية روابط بيننا وبين بغداد).. مؤكداً: إن الحل الوحيد هو الانفصال.. مستدركاً: لكن بشكل سلمي بلا عنف واقتتال ..
بالمقابل أكد قباد طالباني نائب رئيس حكومة الإقليم مؤخراً: (إن الأكراد لا يستطيعون حل المشكلات السياسية والإدارية الداخلية.. فكيف بإمكانهم الاتفاق على مسألة مصيرية كالاستقلال ؟ في الوقت الذي يشمُ عند النخب الكردية الرفيعة في الإقليم رائحة الانشطار الإداري.. وتابع قائلاً: (إضافة الى عدم توحيد المعبرين بين اربيل والسليمانية).. وأضاف الطالباني قائلاً: (إن طريق الوصول للاستقلال كهدف كبير لا يمكن أن يتم باتخاذ قرار متسرع.. لأن الإقليم ليس مهيئاً على المستوى الداخلي والخارجي لذلك) ..
وحقيقة الأمر إن البيت السياسي الكردي ..كبقية البيوت السياسية (الشيعية والسنية).. لم يعد موحداً حتى حول المطالب الكردية أمام الحكومة الاتحادية ببغداد.. بل تشرذمً وتقاطع بشكل واضح .. لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية معروفة.. ولم يعد الأكراد يعترفون برئاسة مسعود البارازاني للإقليم.. ليس من قبل الأحزاب والقادة السياسيون فحسب.. بل من قبل أكثرية الشعب الكردي..
وأخيراً: وجهت لمشروع البارازاني في الانفصال ضربتين قويتين :
الأولى : إن 28 دولة أبلغت البارازاني رسمياً رفضها انفصال إقليم كردستان عن العراق.. من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا وروسيا ..
الثانية: إقالة وزيره الوحيد وزير المالية في الحكومة الاتحادية هوشيار زيباري.. من قبل مجلس النواب الاتحادي بتهم فساد ..
إن الأزمة السياسية والاقتصادية والإدارية في كردستان قد تطيح بمسعود البارازاني وحكم عشيرته.. أو إقامة إدارتين مستقلتين واحدة لأربيل والأخرى للسليمانية.. وصراع بين حزب البارازاني والجماعة الإسلامية على حكم دهوك.. لهذا أصبح شعار (الاستفتاء حول حق تقرير المصير) لن يحل الأزمة بل قد تتفاقم.. وأصبح شعاراً لحكومة البارازاني للهروب من المشاكل الداخلية.. ولم تعد مسألة الاستقلال عن العراق ابرز الأمنيات الكردية الشعبية.. بل ألازمة الاقتصادية والسياسية وإعادة الديمقراطية هي المشكلات الأساسية التي يهرب منها البارازاني تحت يافطة (الاستفتاء والاستقلال) ..