22 نوفمبر، 2024 7:35 م
Search
Close this search box.

الدولة العميقة

من ضمن المصطلحات التي نسمع عنها بين فترة وأخرى تطفو إلى السطح ما يسمونه الدولة العميقة وأحيانا الحكومة العميقة وغيرها حكومة الظل الخفية فما هي هذه الحكومات وما المغزى من وجودها وهل هي فعلا موجودة وإذا كانت حقيقية من يشكلها وما هو دورها وفي أي البلدان توجد وسائل كثيرة سنحاول أن نتلمس إجاباتها إن استطعنا في هذه السطور.

في الحقيقة هذا المصطلح فضفاض يحتمل كل التصورات التي تقترب من ذهنك ويمكن أن تطلق عليه مجموعة من التعاريف ولكن هي بأبسط صورها مجموعة من الأجهزة الشبحية المخفية تشعر بفعلها واثرها دون أن تراها وهي تعمل داخل دولة معينة فتخترق أجهزتها العسكرية والثقافية والعلمية والمالية بعناية خاصة وتنمي مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية وتنمو باستخدام كل الأساليب المتاحة لها بغض النظر عن شرعيتها أو عدم شرعيتها وقد تكون متصلة مع بعضها لتشكل شبكة تكمل بعضها البعض أو قد تكون منفصلة عن بعضها ولا تعرف بعضها وقد تتفق في مصالحها أو تتقاطع ولكن تأثيرها قوي وفي كل الأحوال وهي كالفيروس ينمو ويتكاثر إذا دخل جسم الكائن الحي وحين تفحصه منفردا لا تصنفه على الكائنات الحية أي إن هذه الشبكات تحتاج إلى حاضن يغطي نشاطاتها وهذا الحاضن هو جسد الدولة حيث تكون في بعض حالاتها هشة وضعيفة فتأكل من خيراتها وتعشش في وزاراتها ودوائرها كافة ولا تتأثر بقراراتها فهي غير معنية بها إلا بقدر ما يحقق نموها وتمتلك كل أسباب القوة بمساعدة من جهلة الشعب مقصودة أو غير مقصودة وتستحوذ على المال والسلاح والرجال بأية وسيلة وتتصرف بها حسب الحاجة وتشتري المناصب وتشتري القرارات مهما كانت عظيمة بمالها المسروق من الدولة أصلا ومن قوت الشعب علما إن أفرادها والقادة منهم على الأخص يتظاهرون بمنتهى الوطنية والإخلاص في أداء الواجبات للتغطية على أهدافهم وحديثهم ممتع ومقنع وهذا النوع سلبي وقد تنشئ بعض الدول خصوصا ذات الطابع الدكتاتوري منظمات تعمل لخدمتها وتنفيذ ما تراه هي ضروري ويحتاج إلى العمل في الخفاء كبعض الأجهزة الأمنية مثل بعض دوائر المخابرات والاستخبارات وهي تعمل مثلا على تصفية الخصوم في الداخل والخارج أو اختراق التظاهرات والتجمعات المعارضة وتحويل مساراتها لتعطي للحكومة مبررا لضربها ويمكن أن نسميه النوع الايجابي للدولة العميقة وقد تصل هذه الهياكل إلى القوة التي تنافس بها سلطة الحكومة فتظهر إلى السطح متجاهلة لوجود الدولة الأم المعلنة وتعلن مسئوليتها عن بعض نشاطاتها بلا مهابة لأحد.

بدأت الدولة العميقة خطواتها الأولى في تركيا كما يقول بعض المؤرخين السياسيين الأتراك وإلى اللجنة السرية التي أنشأها السلطان سليم الثالث 1761-1808 لحمايته بعد محاولة إغتياله أثناء عودته من حربه مع روسيا والنمسا والجدير بالذكر هنا إن الصدر الأعظم الذي يوازي اليوم رئيس الوزراء في المنصب لم يكن يعلم بوجود هذه الجمعية ثم بدأت تنتقل الفكرة إلى كثير من بلدان العالم المتطلعة إلى التحرر وخصوصا ما يسمونها بلدان العالم الثالث وبالأخص الدول حديثة التكوين أو حديثة الاستقلال حيث تكون فتية وبحاجة إلى إثبات وجودها بينما في المقابل هناك من تتطلب مصلحته أن تكون الحكومة في صفه وتعمل على تلبية مصالحة فيخترقها من خلال هذه الأجهزة.

الدول بطبيعتها تعمل وفق قوانين أعدتها لتنظم حياتها ومن خلالها تدير مؤسساتها الوطنية بما يخدم مصالح مواطنيها واليات عملها ولا تحتاج إلى كثير من العناء إذا أعدت كوادرها بناءا على تخصصاتها إعدادا يؤهلها لانجاز المهام المناطة بها ولا يستطيع احد اختراقها والتأثير فيها إضافة إلى خلفيات كوادرها الدينية والمرتبطة بتقاليدها وأعرافها الاجتماعية ولكن هذه الحالة تفقد قيمتها ويتخلى عنها أصحابها إذا ترهلت الحكومة وابتعدت عن الهاجس الوطني وأخضعت إلى إرادات قواها السياسية الداخلية وبنت مصالحها على أساس قوى خارجية وفرت لها الحماية من دون الشعب وفي هذه الحالة صارت فرصة الدولة العميقة اكبر في النفاذ إلى كل هرم الحكومة وبدأت بتأسيس منظوماتها الخاصة تحت عناوين وتسميات براقة كالديمقراطية وحرية الانتماء وحرية التفكير والإنسانية فتسرق معانيها السامية كأمثلة لسبل الاختراق وما يحصل اليوم هو خير دليل فالمواطن الذي يتظاهر سلميا يطالب بحقوقه الطبيعية التي اقرها الدستور لا يخرب مؤسسات الدولة لأنه يدرك أنها إحدى وسائل تحقيق رفاهيته التي ينشدها ويطالب بها ولكن من يحرق ويدمر هو من يحاول خلط الأوراق وذر الرماد في العيون ليمنح أجهزة الحكومة فرصة وعذر لضرب المتظاهر الضحية من جانب ويحقق الفائدة المادية لذاته عند إعادة الإعمار فهذا جانب واضح للدولة العميقة ومن ينفق ملايين الدولارات ليحصل على منصب معين لابد انه سيعمل على استعادة نفقاته من خلال موقعه الذي يشغله ويجد إن له الحق الشرعي في ذلك ولكن بالتأكيد أسلوبه سيكون غير شرعي ولا يتوقف الأمر عند الأفراد بل يتعداه إلى الأحزاب السياسية فهي منبع الخطورة إذا استغلتها القوى غير الوطنية وإذا ابتعدت بولاءاتها إلى جهات خارج حدود الوطن فتلك هي الطامة الكبرى لأنها ستبيع الوطن والمواطن إلى من يؤمن لها الحماية والمال والدعم إضافة إلى إن امتلاكها لعناصر القوة الأساسية كالمال والسلاح سيدفعها إلى تصفية خصومها في الساحة السياسية أو حتى من يختلف معها في الرأي كما إن أي اختلاف في التطلعات والمناهج عوامل دفع إلى فرض الإرادات على ارض الواقع لا بل تبلغ فرض آراء الحزب وأجنداته على ذات الحكومة واليات تشكيلها وتلك جميعها وغيرها أيضا وسائل للتعبير عن حكومات عميقة فاعلة في الوضع الحالي حفظ الله بلادنا وأهلنا من كل سوء ومكروه .

أحدث المقالات