23 ديسمبر، 2024 3:04 م

الدولة العثمانية وصناعة الطائفية السياسية الحديثة

الدولة العثمانية وصناعة الطائفية السياسية الحديثة

عندماغادرت الدولة العثمانية غير مأسوف عليها ارض العراق بخروج اخر جندرمة لها عام 1918 وسيطرة الانكليز عليه الذين بدوا اكثر تحضرا من سابقتهم التي حكمت العراق وفق مبدء (اعطي الاتاوة وفعل ما شئت ) فأبقت العراق عبارة عن قرية كبيرة على الرغم من فترة احتلالها المراثونية له والتي امتدت اربعة قرون اي من عام 1532ميلادية وأستنزافها لثرواته الزراعية والمعدنية بأستثناء البترول الذي لم يكن مكتشف بعد لصالح طموحاتها في الهيمنة على العالم القديم حتى وصل نفوذها على مشارف فينا عاصمة النمسا .. وقد طرحت نفسها كراعية وحامية لبيضة وعز الاسلام والمسلمين بكافة طوائفهم وقومياتهم ..وخصوصا بعد تنصيب السلطان سليم الاول نفسه خليفة للمسلمين عام 1517ميلادي..عندما جيئ (بالمتوكل على الله) وهو اخر ما بقي من سلالة العباسين الهاربين من بغداد الى مصر جراء الاحتلال المغولي لها..ليتنازل عن الخلافة الى سليم الاول مباركة ازهرية واعطي بعض من اثار رسول الله (ص) العصى والبردة وسلم مفاتيح الحرمين من قبل شريف مكة (محمد ابو نمي بركات) كرمز لخضوع واعتراف منه لسيادته على الاراضي المقدسة وبذلك استطاعت الدولة العثمانية مد نفوذها في العالم الاسلامي ومن ضمنه العراق بسهولة وبشئ من التقبل من قبل سكانه ذا الغالبية المسلمة .. على الرغم من التحفظ الذي ابداه علماء الدين الشيعة من مسئلة الخلافة كون المذهب الجعفري يحصر الخلافة فقط في قريش بل في المعصومين من ذرية علي بن ابي طالب (ع) بعكس باقي المذاهب الاسلامية وبالخصوص المذهب الحنفي الذي اجاز لغير العربي ان يصبح خليفة للمسلمين على ان يحقق شرط العدالة .. وما ان وطأت الجيوش العثمانية ارض العراق حتى بدأت التجاذبات بينها وبين شيعة عرب العراق وكانت هذه التجاذات انعكاس للصراع السياسي والعسكري والايدلوجي مع الدولة الصفوية الشيعية في ايران وشكل هذا الصراع تحديا للنسيج الاجتماعي العراقي وخدش للحمة الوطنية التي لم تتبلور معالمها بصورة جلية في ذلك الوقت ..ويذكر المرحوم الدكتور علي الوردي في لمحاته الجزء الاول ..ان سليم الاول واسماعيل الصفوي كانا على الطريقة البكتاشية والتي هي مزيج من الصوفية والمذهب الاثنى عشري الشيعي في شبابهما كانا جالسين عند (بالم سلطان) شيخ الطريقة ان ذاك فتعاهدا عند وصولهما الى الحكم ان يجعلا الامة الاسلامية تتبع الطريقة البكتاشية وعندما تحقق ذلك راسل اسماعيل صديقه القديم سليم الاول وذكره بالوعد فاعتذر له سليم الاول بحجة ان كل حاشيته هم من اهل السنة ولايستطيع فعل مثل هكذا امر مما اغضب اسماعيل الصفوي وبدء العداء بين الدولتين ..وبغض النظر عن مدى دقة هذه الرواية لكنها تعكس جزء من طبيعة الصراع الدائر بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية اّن ذاك وبرورز العنصر الطائفي فيه قبل دخول الدولة العثمانية الى العراق ..ومن بعدها اصبح الفرد العراقي ساحة له والذي كان هدفه السيطرة والنفوذ لاغير وان حاول ان يؤطر نفسه بشعارات دينية وطائفية حتى ظهر المثل القائل (خوجة علي ملة علي ) كنوع من التهكم ابداه الشعب العراقي اتجاه مايحدث له والحالة التي وصل اليها ..وهنا (علي) رجل دين متذبب الولاءات فاذا جاء الصفويون اصبح سيد علي واذا جاء العثمانين اصبح ملة علي ..لذلك كانت الدولة العثمانية تنظر الى شيعة العراق على انهم الامتداد الفكري والعقائدي والسياسي للدولة الصفوية ..حيث يروي ساطع الحصري في كتابه (البلاد العربية والدولة العثمانية )..ان سليم الاول حين اراد محاربة اسماعيل الصفوي امر بقتل كل الشيعة في البلاد العثمانية بفتوى من بعض رجال الدين على انهم مرتدين..وهذا الحقد الطائفي جعل الدولة العثمانية تتبني فكرة انشاء برجوازيات عراقية على اساس طائفي وادخالها الى الجيش العثماني والتي تحولت فيما بعد النواة والركيزة الاساس التي تشكلت عليها الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعد ان تبنى الانكليز هذه البرجوازيات واحتضنها وتغييرت ولاءاتها للمستعمرين الجدد ..وبذلك وضعت البنة الاولى للطائفية السياسية بمفهومها الحديث وقد عانى ابناء هذه الطائفة من ظلم الدولة العثمانية كما عانى ابناء الطائفة السنية من نفس الظلم ابان الاحتلال الصفوي للعراق..لكن الدولة العثمانية اتبعت طرقا اكثر حداثة وذات ابعاد سيتراتيجية في تعاملها مع الشيعة العرب في العراق ومنها سياسية الاقصاء التي انتهجتها حتى منعتهم من دخول اي وظيفة حكومية او مدرسة حربية كما يذكر كامل الجادرجي في كتابه (من اوراق كامل الجادرجي ) ..(ان الطائفة الشيعية تعد في زمن الدولة العثمانية اقلية ينظر اليها بعين العداء فلم تكن يقبل لهم تلميذ في مدارسها الحربية ولا اي وظيفة حكومية وحتى المدارس الاعدادية كانت يمنع ابناء هذه الطائفة من دخولها) والكلام هنا لكامل الجادرجي ..ويروري المرحوم عبد الكريم الازري في كتابه (مشكلة الحكم في العراق) ..(ان فتاح باشا قد تحول من المذهب الشيعي الى المذهب السني لانه اراد ادخال ابنه المدرسة الرشدية ومن ثم ادخاله للمدرسة الحربية العثمانية والتي كانت محرمة على الشيعة)… وعلى الرغم من كل هذا نجد الشيعة في العراق قد وقفوا الى جانب الدولة العثمانية في ظاهرة غريبة عن مفاهيم السياسة والبراغماتية الانتهازية ..وتحركت الحوزة العلمية الشيعية لتكون اول المتصدين للاحتلال البريطاني للعراق فخرج الالاف من ابناء الوسط والجنوب بقيادة رجال الدين للتصدي للقوات الزاحفة الى بغداد من الجنوب ..كما حدث في معركة الشعيبة عام 1915 عندما قاتل عشرة الالاف مجاهد من ابناء الوسط والجنوب جنبا الى جنب مع الجيش العثماني بقيادة رجال الدين الشيعة والذي كان على رأسهم السيد والشاعر الكبير المرحوم محمد سعيد الحبوبي والسيد محسن الحكيم الذي اصبح لاحقا من اكبر مرجعيات و زعامات الطائفة الشيعية في القرن العشرين..والذي ابدوا فيها بسالة فائقة على الرغم من جهلهم لاساليب الحرب الحديثة ..وقد تعددت الاسباب والدوافع التي دعت الشيعة للقتال مع العثمانين ومنها .. ان الانكليز كانوا يمثلون اول احتلال مسيحي للارض العراقية عبر التاريخ يحمل ثقافة غربية غريبة عن طبيعة وعادات وتقاليد مجتمعنا الاسلامي الشرقي فكل الغزوات التي تعرض لها العراق منذ الفتح الاسلامي له كانت من شعوب وممالك ودول اسلامية بأسثناء الاحتلال المغولي الذي اسقط الدولة العباسية عام 656 هحرية ..اضافة الى ان ما كان يجمعهم مع الدولة العثمانية هو الرابط العقائدي (مظلة الاسلام ) متجاوزين في ذلك عقدة الطائفة والمذهب ومن مبدء ان الدولة العثمانية تمثل (اهون الشريين )..وهناك سبب اخر رئيسي لم تتبلور معالمه بصورة واضحة في تلك الفترة وهو الدافع الوطني حيث كان العراق عبارة عن مجموعة من الولايات تابعة للسلطان العثماني وكجزء من امبراطوريتها الكبيرة المترامية الاطراف ولم يكن هناك مفهوم للدولة العراقية بمعناه الحقيقي وبالرغم من هذا القصور الذي يشوب هذا المفهوم لدى ابناء العراق في تلك المرحلة التاريخية الا انهم بتصديهم للاحتلال البريطاني اثبتوا انهم قد سبقوا الاخرين في فهم هذا المعنى وادراكه وعبروا عن مدى تمسكهم بهذه الارض وتجذرهم فيها ..وبقيت جذوة الثورة ضد الغزاة الانكليز متقدة تتحين الفرص للافصاح عن نفسها مرة اخرى كما حدث في حزيران عام 1920بثورة الظوالم بقيادة شعلان ابو الجون ومن ثم انتشار الثورة في وسط وجنوب العراق كالنار في الهشيم بمباركة ورعاية مباشرة من المرجعية الشيعية المتمثلة باية الله السيد محمد تقي الشيرازي ..لتجبر المحتلين على تشكيل حكومة وطنية للعراق ..كانوا اول المقصيين والمبعدين عنها ثأرا من الانكليز لكبريائهم التي اذلتها (مكاوير) فقراء وسط وجنوب العراق.