هاهو في الفراش يحدق في بندول الساعة الجدارية وهو يتأرجح جيئة وذهابآ بنبضات بطيئة كأنها صدى لنبضات قلبه , أنها الأفكار, تتزاحم ثانية , فيتألم ويظل يتنهّد بين الفينة والفينة حتى انه يروح ويجيء في ذاكرته وشوقه يتأجج علّه يتذكر عنها شيئا غير لعبة الدهاليز فوق أكداس الرمل الرطب وحديثها : ” سأريك كيف تصنع دهليزا لتمر فيه العربات الصغيرة ” ثم تضيف ” ضع يدك أمام يدي وابدأ بالحفر عندما أصيح : حلال , ستجد أن أيدينا ستلتقي معا .. وبعد ذلك نخرجهما برفق ليكتمل ” . كانت عينيه تحدقان تارة إلى يده وهي تلامس أصابع يدها بتهور وتارة أخرى إلى عينيها دون أن يحدث شيئا, بل كانت تنظر إليه قائلة : أمسكت يدك !!.. كم هي دافئة !!
ذات يوم قرر أن يذهب لزيارة قبرها , فقد ترددت أنباء غرقها في نهر قريب مع صبيتين كنّ يغسلن الثياب والصحون فيه كعادة أهل القرية . منذ سماعه النبأ وهو في غرفة الأسر والوحدة. كانت زيارته للقبر شتاء بمثابة الانفلات من عزلته وعذاب الشك والقلق وآلام العظام “.
لم يعهد هذا التفجر بالبكاء من قبل ولا وحشة كوحشة الوقوف على القبر. فبالرغم من حكايات أمه المخيفة التي كانت تسردها عند الغروب عن الأشباح في المقبرة المجاورة لقريتهم لكي يستغرق في نوم عميق خاصة بعد اللعب فوق قضبان سكة الحديد التي تشق القرية وفوق تلال الرمال الرطبة مع صبية طفولته , إلا انه لم يرَ مثيلا لهذا الألم والاستغراق , فلم يكن ذلك الشتاء مختلفا عن سابقه , فالتشنج التقليدي قد عاد إلى مفاصله ثانية مثلما تعود الأمطار لتوغل في الأرض أو كالبرق يسطع في عباءة الظلام ليبدأ موسم شراء والتهام ” البر وفين ” والصور القاتمة التي تطل على المجهول .
جلس مثل أبو الهول فوق تراب القبر وراح يسرّح البصر فوق أديم القبور اللامتناهي بأنفاس متقطعة وفكر شارد , بينما راحت يداه بتلقائية معهودة تغور في ذراته الرطبة , ثم يعيدها من الجهة الثانية . تفحص بأصابعه الجهتين كما كان يفعل . انه دهليز صغير . أحس برطوبة الرمل فبدا عليه شحوبا وخذلان وهو يسمع صوتا رقيقا طفوليا يناديه من جوف القبر : حلال .. حلال.
نهض وهو مدرك انه ينزع إلى شئ يشعر به . ففي كل مرة يناديه الصوت فيذكره بوجه صديقته “عتاب ” المليء بالضوء ونعيم العافية , انه يتذكره ولا ينفك يضطهده فيجعله يختبئ وراء تفسيرات عديدة . أحيانا تجره بيدها إلى غابة مليئة بالثقوب والثعابين, فيهرع في الصباح ليبحث عمن يفسر له هذه الرؤيا.
تنفس الصعداء ونظر الى سماء تلك الليلة النظرة الأخيرة وهمَ بمغادرة المكان . شعر وكأن حذاءه قد التصق بالأرض فتجمدت أوصاله وانتشرت رعشة غريبة في كل جسده حتى وصلت قمة رأسه مخلفة صداعا مروعا, فأحاط رأسه بيديه لكنه عاد فمد يده في الدهليز نحو الأعماق فشعر وكأن يدا تجتذبه برفق شديد. تلفتّ حوله ليتأكد من لاوجود لشخص آخر . حاول الصراخ, لكن الصوت لم يخرج من فمه. تلفت ثانية عسى أن يلقى أحدا ينجده, لكن بلا جدوى. حدّق في يده وهي تغور في رمال القبر المتحركة حتى بلغت كتفه. بعد لحظات وجد نفسه يهوي في جوف القبر , وفي الحال اصطدمت عيناه بعيني امرأة متقدمة في السن . انتابه إحساس غريب بأنه يعرفها . جلس القرفصاء أمامها دون أن يتحرك, وراح يتفحص وجهها فصرخ: عتاب !!
اجتاحته رغبة بالبكاء فقال : ماذا تفعلين هنا ؟
لم تنبس ببت شفة , فأخذ بيدها وخرجا نحو المروج والبساتين المجاورة وهم يهرولون ويقذفون بالأحجار نحو عذوق النخيل وجذوعها بأجسادهم المجهدة . كانت يداه ثقيلتين وساقاه جامدتين . وبعد هنيهة أطلّ النهار. حاول الابتعاد معها وهو يحمل وجها أكثر حبورا هذه المرة. تأمل قرص الشمس ورفع يده نحوها وبدأ الدفء يتسلل في كيانه وبدا وكأنه محلق في الفضاء وهو في غبطة ونشوة . ابتسم ولم يشعر بألم أقدامه, بل كأنهما حلقتا معه بلا تردد.
كان الظلام والسكون يحتضران أثناء نهوضه من الفراش مرعوبا بينما انهمر رنين منبه الساعة ليملأ جوف الغرفة .