الدكتور جليل كمال الدين المُترجِم الذي أهدى القارئ العربي دفءَ الأدب الروسي وحرارة الإنسان

الدكتور جليل كمال الدين المُترجِم الذي أهدى القارئ العربي دفءَ الأدب الروسي وحرارة الإنسان

محمد علي محيي الدين

في مدن العراق التي تنبت الفكر مثلما تنبت النخيل، وُلد الدكتور جليل كمال الدين في الحلة عام 1930، حاملاً في تكوينه المبكر ذلك المزاج الجنوبي المُشبع بالحكمة والرغبة في التغيير. ومنذ نعومة أظفاره، بدا أن الرجل لا يؤمن بالحياد في زمنٍ تعصف فيه الرياح السياسية، فتقدّم صفوف الجماهير رافضًا معاهدة بورتسموث، ليُزجّ به شابًا في السجن ثلاث سنوات وهو لما يتجاوز الثامنة عشرة.

وربما كان هذا التكوين المبكر، المجبول على وعيٍ سياسي وروحي، هو ما رسم له طريقه لاحقًا؛ طريقًا لم ينحصر في التعليم الأكاديمي، ولا توقف عند حدود القاعات الجامعية، بل جاوزها ليكون صوتًا ثقافيًا مهمًا، وجسرًا بين ضفتين: الضفة الروسية بأدبها وفلسفاتها، والضفة العربية بقارئها المتعطش للمعرفة والعدالة والجمال.

في الخمسينيات، أكمل جليل كمال الدين دراسته الجامعية ليُعيّن مدرسًا للغة الإنجليزية، وكان من الفاعلين في تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عقب ثورة 14 تموز 1958، وهي لحظة ثقافية لم يكن من الممكن أن يغيب عنها من شبّ على فكرة الحرية.

ولأنه كان يؤمن أن الفكر لا وطن له، وأن القيم الكبرى تُترجم كما تُكتب، شدّ رحاله إلى موسكو، وهناك، في قلب الاتحاد السوفيتي، تشكّلت ملامحه العلمية والمنهجية، فنال الدكتوراه في نظرية الأدب، وتشرّب الفكر الروسي، لا بوصفه سلعة مستوردة، بل كفضاء إنساني واسع يصلح للتأمل، وللترجمة، وللصراع أيضًا.

عاد إلى العراق عام 1972، ليكون أستاذًا في جامعة بغداد، يدرّس الأدب المقارن ويركّز على الأدب الروسي، وينقل لطلبته — وهم مئات، وربما آلاف — تراثًا معرفيًا لا يتوقف عند المعاني بل يغوص في السياقات والعلاقات والرموز.

لكن المعرفة لم تحمه من بطش الأنظمة، فاتهم بالانتماء إلى تيار يساري معارض لسلطة البعث، ليُحكم عليه بالسجن المؤبد عام 1986. وهناك، في زنزانته، واصل الدفاع عن قناعاته الإنسانية، فكان سجنه امتدادًا لكتبه، وتجسيدًا لأفكاره عن العدالة وكرامة الإنسان. ولم يُطلق سراحه إلا حين شمله قانون العفو العام، لكنه خرج أكثر رسوخًا، وأكثر إيمانًا بأن الكلمة الصادقة تعيش، حتى في أقسى الزنازين.

   ينتمي جليل كمال الدين إلى أسرة أدبية معروفة؛ شقيقه الدكتور عبد الإله كمال الدين أستاذ الفن، وأخوه الشاعر أديب كمال الدين، ولكن جليل كان له صوته الخاص، وصنيعه الذي لا يُشبه إلا ذاته. في ترجماته، لم يكن مجرّد ناقلٍ بين لغتين، بل كان مفسرًا ودليلًا وروحًا ثالثة للنص، فاختار بعناية ما يترجم، وأخلص للنص الأصلي دون أن يُغفل جمال اللغة العربية وسحرها. ترجم أعمالًا روسية شديدة العمق والدقة، منها رواية “قصة إنسان حقيقي” لبوليفوي، و”مختارات من قصص غوغول”، و”وداعًا يا غولساري”، فكان لا يختار إلا ما يستحق أن يُقرأ، وما يمكن أن يضيف إلى القارئ العربي أفقًا جديدًا.

  يقول النقّاد إن مزاياه في الترجمة تنبع من فهمه العميق للثقافتين: الروسية والعربية، فقد درس الأولى من منابعها، وعاش الثانية بكل آلامها وأحلامها، فجاءت ترجماته أمينة في المضمون، راقية في الأسلوب، ومتقنة في نقل النَفَس الفني والرمزي للنص. وفي هذا المجال، كان أشبه بجراح أدبي يعرف موضع المشرط، ومتى يخيط الجملة ومتى يتركها تنزف شعرًا أو معنى.

أما في كتاباته، فقد تميز أسلوبه بلغة عربية عالية، تجمع بين بساطة العرض وعمق المحتوى، وكان يكتب كما يُفكر: بانفتاح على العالم، وبإخلاص للإنسان. في كتبه مثل الشعر العربي الحديث وروح العصر، وفي تاريخ تطور اللغة العربية الفصحى، ودراسة في عالم الغزالي وفكره، مزج بين حسّ الباحث، وذائقة الكاتب، وقيم المفكر، فجاءت نصوصه مشبعة بروح التأمل والنقد والبحث عن الحقيقة.

  ظل جليل كمال الدين حريصًا على أن تكون كتاباته وترجماته متصلة بالإنسان، لا تغفل قضاياه، ولا تتورط في تجريد لا طائل منه. تناول موضوعات في الهوية، والأخلاق، والسياسة، والأدب، وفتح عبر مقالاته العديدة — التي نُشرت في مجلات ثقافية عربية — نوافذ للقارئ العربي على نصوص وأفكار من عوالم أخرى.

  وكان النقّاد ينظرون إليه بوصفه ناقدًا من طراز خاص، يتقن استخدام الأدوات التحليلية دون أن يغرق في التنظير، ويقدّم رؤى لا تفرض نفسها على القارئ بل تُحفّزه على التفكير. رأى بعضهم أنه جسّد ما يمكن أن يكون عليه الناقد الحقيقي: قارئًا عميقًا، وكاتبًا شجاعًا، ومفكرًا يحمل ضوءًا في يده لا سيفًا.

رحل الدكتور جليل كمال الدين، لكن اسمه لم يغب عن الذاكرة الثقافية. ما زالت كتبه تُقرأ، وترجماته تُدرّس، وطلبته يذكرونه بتقدير بالغ، لا لعلمه فقط، بل لأخلاقه وإنسانيته وأسلوبه الأبوي في التعليم.

هو أحد أولئك الذين لم يُخضعوا الأدب للفكر السلطوي، بل قاوموه بفكرٍ نقي، وكلمة صادقة، وسلوك منسجم مع المبدأ. ولهذا، يبقى اسمه شاهدًا على زمنٍ كانت فيه الكلمة الحرة أثمن من السلطة، وكان فيها المثقف يُسجن من أجل فكرة، لا من أجل امتياز.

 في النهاية، يمكن القول إن الدكتور جليل كمال الدين لم يكن مجرد كاتب أو مترجم أو أستاذ جامعي، بل كان مشروعًا ثقافيًا وإنسانيًا متكاملًا، جسّد فيه التلاقح الخلّاق بين الثقافات، وكتب من قلب الألم، وبذل عمره ليجعل من الأدب مساحة لفهم الآخر والدفاع عن الإنسان. وإنه لمن القلائل الذين جعلوا من الترجمة فعل وفاء للمعرفة، ومن الكتابة شهادة على العصر، ومن الحياة منبرًا للحرية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات