23 ديسمبر، 2024 6:25 ص

الدكتور أكرم الوتري : الصّالحُ في ثمود!

الدكتور أكرم الوتري : الصّالحُ في ثمود!

أنا مضنىً، أعودُ بعد طوافي
أبديَّ الثواءِ عند ربوعِك
وعزائي، أني سألقى فؤاداً
وبقايا من الهوى في ضلوعِك
حُلُمي أن أموت بين ذراعيكِ
ووجهي مبلّلٌ بدموعك
في سنوات الطلب العالي البعيدة، حملتُ معي دفتراً صغيراً بحجم الكف الواحدة، كتبتُ فيه منتخباتٍ مما أحب من الأشعار، ربما أنافس بها لو أضطررتُ أشعار طاغور، أو أسد الله غالب. وكانت في دفتري مقطوعة صغيرة تصف يوماً مطيراً، كانت بالنسبة إليّ كالإنتفاضة التي ملكت عليَّ نفسي، فلغتها مختلفة تماماً عن باقي الأشعار، وموقفها جديد لم أعهده من قبل، لكن المؤسف حقاً أن شاعرها مجهول كما نسختها، وكنت أظن أنه مهجري، أو أندلسي:
أسمعُ وقعَ المطرِ الهاطلِ
كأنه لحنٌ بغير إنتهاء
أو قصةً في شفتي جاهلِ
يهذي، وقد ماجت به كبرياءْ
دارت الأيام معنا سوادٌ في السواد، طعم العلقم، وكنا معلقين من رؤوسنا فوق الحمأ، حتى رأيتُ يوماً بعد حرب الخليج الملعون الثانية صاحب بسطة في أحد أزقة محلة البجاري العتيقة بالبصرة، يعرض مجموعة من الكتب القديمة، أثارني منها واحد وجدت فيه أمراً كالعلامة الشاخصة في الرمال العطشى، هو صاحبه: أكرم الوتري، والديوان: “الوترُ الجاحد”! كنت كمن يعثر على كنز مفقود سقط في البحر منذ سنين، وخاب الرجاءُ فيه
وتبسمتُ، فالتفتِ تضنين بأن ألمح الهوى في العيونِ
فرأيتُ الهوى على الجيدِ ظمآنَ عفيفاً يخاف همس الظنون
ورأيتُ الصبا بوثبة نهديك فباحت بسرك المكنون
أيَّ سرٍّ وضعتِ في البسمة الخجلى فأفنت من ناظريَّ شجوني؟
صرتُ أهوى الرياحَ، حتى الأعاصيرَ وأهوى غبارها في الجفون!
ليلة أمس ذهبت عنا الشاعرة الإنكليزية المعروفة دوريس ليسنغ، وما أن أصبح الصبح حتى وجدنا العشرات من المقالات التي كتبت في الليل تؤبن وتطري على فقيدة الأدب الإنكليزي، لكننا لم نجد أثراً حينما ضاع منا قبل أشهر قليلة الشاعر والإنسان العريق الدكتور أكرم الوتري. ولو كانت دوريس ليسنغ تعرف بذلك لقالت إن هذا الشاعر العراقي الراحل أحقُّ مني بالرثاء. وحتى اليوم لا ندري لماذا يسقط المتكلمون في حركة التجديد الشعري العربية أسماء لامعة كأكرم الوتري، ولماذا يضيع ديوان الوتر الجاحد من بين ثلاثة دواوين خالدة كانت قد صنعت تلك اللحظة التاريخية الخالدة في ميلاد الشعر العربي الجديد. لا شك في أنه الجحود، أو هو الجهل المطبق وخيانة التاريخ الذي تعودنا عليه نحن البدو الرحل. والغريب في الأمر أن الرواد الثلاثة أنفسهم لم يذكروا يوماً أكرم الوتري وديوانه وهم أكثر الناس وعياً بجوهر هذا الشاعر وتميزه وإبداعه. والعجيب أيضاً أن يأتي تقييم هذا الشاعر المنسي على يد يهودي عراقي هاجر إلى إسرائيل، هو الأستاذ الكبير ساسون سوميخ، إذ يفرد للوتري فصلاً كاملاً في كتابه النادر بغداد الأمس. كان الوتري مبدعاً في طريقته التي لا يضاهيه فيها غير القلائل من شعراء العربية المحدثين، غير أنه كتب ديواناً واحداً، أغلقه وأقسم عليه أن لا يعود إلى الشعر من جديد بعد أن كان هو الشاعر الذي تحلم به بغداد، فما هذه الروعة التي ملكت قلوب المبدعين العراقيين الأوائل، وما زلنا ننهل منهم حتى اليوم، نركض خلفهم عسى أن نلحق بهم، فيضيع منا الدرب؟ أنظروا إلى هذا التصميم المتقن، وذلك التركيز العالي اللذين يصنع بهما الوتري قصيدته الخالية من أية شائبة او خطابة مائعة. أنظروا إلى هذا السيل الدافق من الإيحاء الصوري الذي يعطي للقصيدة الوترية العمق، وكأنه جدولٌ منبجسٌ من على سفح جبلٍ يتللاْلاْ في الضوء ويختفي في الظل. يقفز ثم ينبثق منتصراً متدفقاً في سيره إلى البحر العظيم ليغنّي فيه
كان الوتري يعتز بتراثه الشعري العربي أولاً، ثم بنسبه الخاص للسادة الحسنيين الأشراف، فكان يأنف من الدعاية لنفسه أو لشعره، فانزوى في أروقة وزارة الخارجية العراقية، وضاع بين دهاليزها المحفوفة بالوشاية والنميمة. ابن الأكابر، سليل آل الوتري، هاشم وسعد، خيرة حكماء النهضة الطبية في العراق الحديث. لا أدري كيف كان الدكتور أكرم الوتري ينظر مثلاً إلى بيوت العراقيين “الحواسم” ما بعد السقوط، هل كان ينظر لهم بعين رجل القانون العتيد، أم بعين الشاعر المجيد. لكن من أين يأتي هذا السطوع في شعر الوتري، هل هو من النجوى أم من الوعي الكامل بفن الإبداع بحيث تكون القصيدة خفيفة الوزن، ثقيلة بالمعاني والأسرار؟
هل منكم من يجد ديوان أكرم الوتري، اليتيم، النادر جداً، الذي صدر عن مطبعة الرابطة في بغداد قبل أكثر من ستين عاماً، فيعيد قراءته ويبعثه لنا من جديد؟
نم بسلامٍ، سيدي أكرم الوتري، فأنت الوتر الكامل في شفاعة أبنائك العراقيين
طيّب الله ثرى الفقيد
خجلانَ من سريَّ، أستره
ويظلُ يرهقني من الكبتِ
فإذا همستُ، فأنتِ في نفسي
وإذا سكتُ، فأنتِ في صمتي