إن مفهوم “الدبلوماسية التبادلية” في العلاقات الدولية، أي تقديم تنازلات رمزية أو مادية مقابل مواقف سياسية، ليس جديدًا في حد ذاته، لكنّ خطورته تكمن حين يتحوّل إلى سياسة عامة تحكم منطق العلاقات الخارجية كما هو الحال في التجربة العراقية بعد الاحتلال. ففي النموذج العراقي، لا تُستخدم الموارد من أجل التمكين السياسي أو تثبيت الدور الإقليمي، بل يجري بعثرتها في صفقات بلا عائد حقيقي، تُضعف السيادة وتُفرّغ المؤتمرات من محتواها. نظرية “الحنطة” ليست مجرد تعبير عن حالة فردية، بل هي تجلٍّ رمزي لغياب الاستقلالية في القرار، وتحوّل العراق إلى طرف مُدار بدلاً من كونه دولة مبادرة.
في خضم التحولات العاصفة التي شهدها العراق بعد عام 2003، برزت ظاهرة جديدة في المشهد السياسي والدبلوماسي، أفرزت سلوكيات غير مسبوقة في الأداء الرسمي، خصوصاً في ما يتعلق بطريقة إدارة العلاقات الخارجية. كان من أبرز هذه الظواهر ما يمكن تسميته مجازًا بـ”نظرية الحنطة”، والتي تعكس تحوّل السياسة الخارجية العراقية من موقع الفاعل إلى موقع المستجدي، ومن لغة المصالح الوطنية إلى منطق الهبات مقابل الحضور. هذا المقال يحاول قراءة رمزية هذه “النظرية” من خلال حادثة إهداء خمسين ألف طن من الحنطة لرئيس دولة مقابل حضور مؤتمر، كاشفًا بذلك عن عمق التدهور في الأداء الدبلوماسي العراقي وغياب الرؤية الاستراتيجية في تمثيل العراق إقليميًا.
فقد أثارت صفقة إهداء العراق خمسين ألف طن من الحنطةإلى تونس، كرشوة سياسية مقابل حضور الرئيس التونسي مؤتمر القمة العربية المزمع عقده في بغداد بتاريخ 17 مايو/أيار 2005، ردود فعل واسعة، ليس فقط داخل العراق، بل من داخل الأوساط السياسية والإعلامية التونسية ذاتها. فقد سارعت المعارضة التونسية إلى وصف هذه المنحة بأنها “إعانة غذائية موجهة للشعب التونسي“، وهو توصيف يحمل في طياته امتعاضًا ضمنيًا من فكرة قبول هبة من بلد يعيش أزمات معيشية عميقة. وأشارت المعارضة إلى أن دولة مثل تونس، التي تبلغ موازنتها السنوية نحو 20 مليار دولار، ليست بحاجة إلى خمسين ألف طن من القمح، خصوصًا عندما تصدر من بلد يُفترض أن تُخصص موارده أساسًا لإطعام شعبه. بعض الأصوات التونسية سخرت من حجم الصفقة قائلة إن قيمة هذه الرشوة السياسية لا تتجاوز 15 مليون دولار، وهو ثمن بخس مقابل ما اعتُبر “شراء” موقف سياسي في مؤتمر عربي لا يحظى بالزخم الفعلي الكافي.
من جانب آخر، عبّر العديد من الأصوات التونسية عن استغرابها من انحدار مستوى الخطاب السياسي في العراق، حتى باتت “الحنطة” تمثل محور السياسة الخارجية وأداة للمساومات الدبلوماسية. فبعد أن كان العراق يهدي تونس الكتب والمؤلفات والمبدعين، أصبح اليوم يستورد القمح مقابل النفط ليعيد تصديره مجانًا كرشاوى سياسية. واعتبرت بعض النخب التونسية أن هذه الخطوة تعكس تقزّمًا في التفكير السياسي العراقي بعد عام 2003، وانزلاقًا نحو أدوات دبلوماسية هزيلة تقوم على “الرشوة مقابل الحضور”. لم يتوقف النقد التونسي عند هذا الحد، بل طالبت شخصيات سياسية الرئيس التونسي برفض “هذه الإعانة المشبوهة”، معتبرين أن بلدًا تغلّف فساده بمفاهيم التبرّع والهبة لا يملك الحق في تصدير هذه الذهنية إلى دول أخرى.
وفي معرض تبريره للخطوة، صرّح رئيس الوزراء العراقي حينها بأن “العراق يسعى إلى تحقيق أعلى حضور ممكن في القمة العربية“، وهو تصريح أثار موجة من السخرية، حيث اعتُبر تعبيرًا عن ما يمكن تسميته في العرف الدبلوماسي بـ “دبلوماسية الحنطة“، أي الحضور السياسي مقابل كيس قمح.
المشكلة الحقيقية لا تكمن في مخرجات مؤتمر القمة العربية، ولا في مدى استجابتها للتحديات المصيرية التي يواجهها العالم العربي في هذه اللحظة التاريخية، بل في الغاية المشوّهة التي ترسمها الدبلوماسية العراقية للمشاركة. إذ يبدو أن ما يشغل بال صانع القرار العراقي ليس السعي لتشكيل موقف عربي موحّد، بل مجرد حضور شكلي للدول مهما كانت التكلفة. تكلفة قد تعني تقديم الرشى للرؤساء، أو التنازل عن أراضٍ سيادية كما في حالة خور عبد الله، أو حتى المصالحة مع قوى الإرهاب تحت شعار التوافق العربي… كل ذلك مقابل حضور بروتوكولي عابر.
إنها أزمة عميقة في التفكير السياسي والدبلوماسي لمن يقود المشهد العراقي، أزمة باتت معروفة ومتوقعة، ولم تعد تثير الدهشة لدى العراقيين الذين اعتادوا على مثل هذه الانحدارات. فحين شارك العراق سابقًا في مؤتمر القمة الإسلامية، لم يحقق سوى أعلى درجات الفشل الدبلوماسي، في صورة عبثية تتكرر مع كل استحقاق عربي أو إقليمي.
قد كان موقف العراق في ذلك المؤتمر الإسلامي صادمًا للشارع العراقي، ومؤلمًا للمثقف المستقل، فقد بدا العراق منزويًا، يتحدث بلسان لا يمتّ لصوت الضحية ولا لطموح الأمة بأي صلة، بل يردد شعارات مستهلكة لا تنتمي إلى لحظة المجزرة التي تعيشها غزة ولبنان. ورغم تسويق بعض الأقلام المأجورة لذلك الحضور “الخافت” بأنه تمثيل دبلوماسي متزن، فإن الحقيقة التي يعرفها المواطن البسيط – قبل المثقف المستقل – هي أن العراق ظهر في المؤتمر مغالطًا لنفسه، مطأطئ الرأس، بعيدًا عن مواقفه التاريخية المشرّفة.
بدل أن يطالب، كما فعلت دول أخرى، بتحميل إسرائيل والولايات المتحدة مسؤولية تعويض الأضرار التي لحقت بغزة ولبنان – أسوة بألمانيا التي ما زالت تدفع تعويضات لإسرائيل حتى اليوم – راح العراق يروّج لإنشاء صندوق إعادة إعمار تدفعه الدول العربية، متناسيًا قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، والموقف المبدئي للمحكمة الجنائية الدولية.
نحن لسنا ضد دعم غزة ولبنان، بل نعتبر ذلك واجبًا، لكن المبدأ الأساس في القانون والسياسة هو أن يتحمل المعتدي كلفة عدوانه. أما أن يُطلب من الضحية – أو من محيطها العربي – دفع ثمن العدوان، فهو منطق أعوج لا يمكن تبريره. إنه موقف بائس ومثير للشفقة في مشهد كان يفترض أن يُرفع فيه الصوت لا أن يُشترى بالصمت أو بالحنطة.
وحينما سكتنا عن العدوان الأميركي على العراق واحتلاله، وعن المطالبة بالتعويضات الدولية جرّاء تدمير البنية التحتية للدولة، ضاع حقنا – ولو أنه لا يسقط بالتقادم. نأمل أن تأتي حكومة وطنية في المستقبل تعيد فتح هذا الملف وتطالب به ضمن القانون الدولي. لكن اليوم، المفارقة المؤلمة أن الولايات المتحدة نفسها تطالب العراق بتعويضات، وقدّرها الرئيس الامريكي دونالد ترامب بسبعة تريليونات دولار!
العراق يقف اليوم على حافة هاوية، نتيجة سياسات الحكومات المتعاقبة التي فرّطت بسيادته واستسلمت لإملاءات الخارج. لقد انحدرت الدبلوماسية العراقية إلى دركٍ سحيق، حتى تحوّلت من الدفاع عن المصالح الوطنية إلى استجداء الحضور لمؤتمرات عديمة الأثر، مقابل أكياس الحنطة!
وهكذا، باتت “نظرية الحنطة” التي تبنّاها بعض مسؤولي الدولة مرادفًا لتنازلات بالجملة مقابل حضورٍ باهت لمؤتمر لا طعم له ولا لون، يُعقد في عاصمة كانت يومًا تُحرك القرار العربي… وبينما تتقاسم الدول الأخرى مكاسب تنازلات بغداد، يبقى الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي.
لقد أظهر المشهد العراقي، من خلال هذه الحادثة وغيرها، أن الدبلوماسية لم تعد أداة دفاع عن المصالح العليا للدولة، بل غدت منصة لتثبيت الولاءات، والتغطية على الإخفاقات، وتصدير الوهم بمكانة إقليمية متراجعة. وبين قمة بلا مخرجات، وحنطة بلا كرامة، وضيوف بلا موقف، تبقى الدولة العراقية بلا تمثيل حقيقي، فيما الشعب يدفع ثمن هذا الانحدار باسم “المصلحة الوطنية”. إن استعادة الدور الإقليمي تبدأ باستعادة الكرامة في الخطاب والسياسة، وهذا لن يتحقق ما دامت “الحنطة” تُقدَّم بديلاً عن السيادة.