“أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، هذه الأهزوجة كثيرا ما ترددها جموع الشعب العراقي عند التظاهر في المناسبات الوطنية وفي الملمات، بعد ان عدل فحواها لتستقر على النص الآنف، لتضم بين ديباجتها المكونات العراقية الثلاث، وليعبروا من خلالها عن مدى صدق مشاعرهم الوطنية الوحدوية الجياشة وعن عفويتهم الطاهرة، وللتعبير كذلك عن مدى أهمية الوحدة العراقية وعن أهمية تماسك اللحمة الوطنية والنسيج الإجتماعي العراقي المتنوع لتلك المكونات.
ولكنهم هل كانوا على بينة من إدراك الظروف التي كانت سائدة على الجو السياسي الاجتماعي آنذاك، والتي أحاطت بولادة تلك الأهزوجة؟.
إذ يفترض أن يكونوا علي بينة تامة آخذين بنظر الاعتبار على أن ظهورها -أي الأهزوجة- كان في ظل ظروف تولي الديكتاتوريات زمام الأمور في العراق فصارت جزء من ثقافة، وترسخت إلى مايفوق حدود الثقافة في زمن نظام الصنم الشمولي الساقط تحت حيثيات الوحدة القسرية، والتي كانت تؤدي وبشكل وثيق إلى بسط سيطرة النظام المركزية وفرض سطوته على مقدرات الأمور التي هيمن بها على الشعب العراقي بالحديد والنار، ولكنها كانت تضم من بين ثناياها امارات الصراع الدفين والكامن بين تلك المكونات الذي دسته مخابرات وجلاوزة النظام في أوساطهم بطريقة الايحاء وأحيانا بالفعل، وهذا ماأسس له الصنم في حينه من خلال عدم تحقيق العدالة الاجتماعية والانسانية والاقتصادية لغاية في نفسه السلطوية، كان أدناها وأخسها العمل بمبدأ ” فرق تسد”، الذي غلغله بين أخلاد طبقات المجتمع وعلى كافة المستويات، نزولا لمستوى الأسرة، وكان هذا بحق هو التمثيل الفعلي لوضع اللبنة الاولى لتفكيك المجتمع العراقي وكنتنته، وهكذا وعلى مدى الأيام أثناء فترة ممارسة النظام للحكم صارت الجماهير مرددة لهذه الأهزوجة وللشعارات الاخرى المناظرة لها بشكل تلقيني لالقائها على اسماع القائد الضرورة وجلاوزته في جميع المناسبات، وماأضطرها لذلك إلا كسب أسترضائهم وتفادي شرورهم، وفي ذات الوقت استوعبت تلك الجماهير الجو السياسي الملبد بالمهازل والاكاذيب، بعد فهمها لنوازع النظام على انه استفرغها من محتواها الافتراضي”الوحدوي” من معناه، وما يحملها على هذه الممارسة إلا الاجبار والخوف من بطش جلاوزة النظام والبعث، ولكن وبعد سقوط النظام، ظلت الناس متمسكة بهذه الأهازيج بعد استرجاعها لمضامينها الإفتراضية كبادرة حسن نية منها لإنبثاق مرحلة جديدة وبداية جديدة دون الإلتفات إلى الوراء بما كانت تحمله من معان مغايرة لديباجتها، وللتعبير ايضا عن صدق مشاعرها والتي مالبثت أن تلوثت بمفاهيم كاذبة بفعل إملاءات وتصرفات بعض السياسيين من “المتأزمين والمتناقضين والمتأرجحين والمتنطعين والمتنزقين”، فصارت الأهزوجة مرة أخرى عبارة عن ممارسة اعلامية تقمصية لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، فتحولت بشكل تلقائي إلى كذبة وفيها مسحة من التزلف والملق،-ككذبة شعار البعث”أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة” المتناقض مع الواقع المستحيل ومع احتلال دولة الكويت-، وعادت ثانية إلى سابق عهدها، وهذا مايؤسس له بعض السياسيين في هذا الآن كما اسلفنا لافساد الجو الاجتماعي مرة أخرى، بحسب بعض المعطيات الدالة على ذلك.
وماأدل على ذلك إلا تلك الانتكاسات والأزمات السياسية والإجتماعية التي عصفت بالعراق كنتيجة لحرثهم الذي زرعوه في الأرضية التي أسس لها نظام الصنم وأيتامه طوال عقود من الزمن، والذي مافتأوا أن يتباكوا عليه ليلا ونهارا، كدليل على عدم خيانتهم له في الغيب، فإذا كان كذلك اذن لماذا سلموه بايديهم للأمريكان؟ ولماذا أدخروا بسالتهم المزعومة للدفاع عن العراق عندما وطأت أرضه ودنس ترابه؟.
بل، لماذا لايدخروا هذه القوة والبسالة المزعومتان لضرب العدو الصهيوني ونصرة فلسطين”الجرح النازف”، لا بل، وصل بهم الحال لأن يفجروا أنفسهم لقتل العراقيين الأبرياء من جميع الأعراق والمذاهب، وبالمفخخات؟.
فهم وفي أحسن الأحوال لايمكنهم العيش في الحياة إلا بممارسة حالات الصعلكة والقتل والكراهية والتناكر ” لذا فإن مدارسهم وجامعاتهم لا تخرج علماء !! بل تخرج ارهابيين وبائعي سلع !! كسلعة الطب والهندسة”، وهذا جزء مماقاله فيهم حسن عجمي في كتابه “السوبر”، واضاف: ” لذا فهم خارج الحضارة والتاريخ لأنهم رفضوا العلم والفلسفة والمنطق,, لذلك أمسوا عبيدا لأسياد العلم!!
والغريب في الأمر وحسب الاحصائيات والوثائق المرموقة أن 12000 اعرابي فلسطيني قاموا بتلك الافعال داخل الأرض العراقية، وقتلوا ماقتلوا بعد تفجير أنفسهم وسط الناس الأبرياء، وقيل والعهدة على القائل: من أن طبيب اسنان فلسطيني قام بتفجير نفسه في سوريا، بعد أن شد الرحال إلى أرض سوريا، وقطع آلاف الكيلومترات من الفيافي والمضائق والبحور، ليستقر في تركيا، ليعبر من هناك وعبر الانفاق إلى سوريا ليفجر نفسه فيها ليقتل الناس من كل الطوائف والالوان، والاولى به أن يقطع فقط 4 كم ليصل إلى تل أبيب ويفجر نفسه هناك، فلم هذا التناقض، ولم تلك الضغينة، وما هذا التسافل والإنحطاط الذي يحمله ذلك الفكر المنحرف؟،
وللأسف ثبت لنا ومن خلال هذه المتناقضات وثبت أيضا للقاصي والداني انهم يعتنقون نفس تلك الأفكار المنحرفة، فلا يحق لهم أن يرفعوا بعد الآن شعارات التوحيد والإسلام وهي منهم براء، وأنتم يامن تدعون الوحدة والوطنية والاخلاص كذبا وزورا وقلوبكم معهم عليكم أن تتوبوا وتكفروا عن أفعالكم وأخطائكم التي أقترفتموها بحق هذا الوطن الجريح والشعب المظلوم، أو تستعدوا لملاقاة غضب الشعب ومحكمته العادلة ومسائلة التأريخ، ولا تظنوا أبدا انكم قد احسنتم صنعا أو تفلتون.
اذن، حسنا فلنعود للأهزوجة الآنفة موضوعة البحث، وبفرض التسليم على أنكم “أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، اذن لماذا بعتم الموصل، إذ ببيعكم هذا بعتم وطنكم العراق، وبعتم شرفكم، إيها القادة المتآمرين عندما تركتم مواقعكم بتدبير أسيادكم، ويبقى السؤال الذي سيلاحقكم دوما، “أن هؤلاء الاسياد هل يستطيعون أن يسترجعوا لكم شرفكم الذي إشتروه منكم ‘بفلس ونص’؟”.
ودخلتم التأريخ من أضيق ابوابه على انكم خونة وجبناء!!.
ترى ماذا سيكون مصيركم إذا ما حوكمتم مستقبلا؟.
وأي عقاب ستستحقون؟.
وإذا أفلتم من العقاب، فهل ستفلتون من الخزي والعار والشنار؟
أما خجلتم من أنفسكم عندما يبيع الداعشي سلاحكم على البيشمركة؟
وماذا تقولون للأجيال القادمة؟ وماذا تقولون لله الذي أمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها؟
وإذا كنتم “أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، اذن لماذا خطفتم كركوك بحجة حمايتها واهلها بإدعائكم، دون أن تفعلوا ذلك مع الموصل أن كنتم صادقين؟
ولماذا تبرأتم من اللواء فاضل برواري، الرجل الوطني المخلص الشجاع الشريف الوفي لتراب وطنه، الذي بر بقسمه واحترم شرف الجندية، واعتبرتوه خائنا ظلما وحنقا لتداهنوا داعش؟
وإذا كنتم “أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، فلم هذا التناكر والتنافر والتهاجر والتصارع والتكفير والتقتيل والتفجير؟
وإذا كنتم “أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، فلماذا تنعتون اخوانكم الشيعة على انهم
مجوس ومشركين وهنود، كان آخرها عن لسان الاعرابي الخائن الهارب أثيل النجيفي ومن سبقه من المتأزمين، وتناسى أصول من دنسوا أرض نينوى؟!!.
وإذا كنتم “أكراد سنة وشيعة، وهذا الوطن منبيعه”، ادن لماذا حنثتم باليمين وبالقسم بالله العلي العظيم ولم تبروا به، على أنكم تحافظوا على وحدة العراق وأمنه وأرضه ومياهه وشعبه، وأن تحافظوا على تطبيق القوانين واحترام الدستور…القسم؟
والحجج والمتناقضات كثيرة، وهي كما يقال حدث ولاحرج.
أما الآن والعراق افتراضا أنه يرزخ تحت مظلة العرف والنظام الديموقراطي، فما جدوى أن تصدح بعض الحناجر امام الكاميرات وأجهزة التلفزة التي تديرها الفضائيات بهذي الشعارات التي ثبت من خلال التداعيات التي شهدها البلد انها موضوعة ومستهلكة ولاقيمة لها من حيث الواقع والتطبيق، وليس لها أي لون أو طعم أو رائحة، ذلك لأن الوحدة الوطنية التي تجسدها تلك الشعارات بين المكونات العراقية ثبت أنها وحدة قسرية لاطوعية ولا هي حقيقية؟
فمثل الوحدة القسرية كمثل من يحاول أجبار الماء للجريان بالاتجاه المعاكس باتجاه المنبع، أو ركوب الأماكن المرتفعة بفعل فاعل، وما أن ينحسر دور ذلك الفعل، فسوف تعود المياه لمجاريها، وهذا هو حال الوحدة القسرية أو الإجبارية.
وهكذا الحال بالنسبة لتعايش المكونات الرئيسية الثلاث في العراق، فكل له ثقافته وتاريخه وتطلعاته، فأجبارهم على التعايش والتعاون والتعارف بات من الأمور المستعصية ومستنزفة للأنفس وللجهود والوقت والأمن والاقتصاد وتبديد للثروات في ظل هذا الظرف الحافل بالتدخلات والموروثات والاملاءات والأجندات الاقليمية والدولية، ولناخذ على سبيل المثال الصراع الشيعي-السني، ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى العالم الاسلامي، فسنجد أن هذا الصراع متجذر من زمن بعيد يمتد إلى عمق بداية الدين الاسلامي منذ انتقال النبي الخاتم محمد (ص) للرفيق الاعلى، “ومن يوم أن رفع قميص عثمان للتآمر على الشرعية”، وصولا إلى عصرنا هذا، حيث المواقف التي خلقت ذلك الصراع وأججته، فهي كثيرة وكبيرة في المعيار والقياسات لايمكن لأي مسلم كان شيعيا أو سنيا أن يتخطاها دون أن تترك اثرا في نفسه، تحول فيما بعد إلى عقد نفسية والى ثقافة متميزة لكل طرف من الأطراف، وحتى لو سلمنا بنسيانها وتجاهلها، فالشيعي أبدا لاينسى رزية استشهاد إمامه وسيده الحسين (ع) مادام حيا، حتى أنه عندما يشرب الماء في كل مرة وعلى مدار الساعة يتذكر عطش سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين (ع) الذي قتلوه مظلوما وعطشانا، وكلما تدور الأيام كلما تتجدد تلك الرزية فتتجسد إلى نهج وأسوة وسلوك، وذلك لما يعتبره بعض السنة أستفزازا لمشاعرهم وتأنيبا إلى بما يسمونه بخليفة المسلمين يزيد بن ابي معاوية (لعنة الله عليه)، وعندئذ تتحدد المشكلة ويحتدم الصراع، وكذلك الأمر لبقية الرزايا والأمور المختلف عليها.
وهذا الواقع لايجب إنكاره وتفاديه لأن هذه القضية إنما هي أصل وفرع، من أصول وفروع الدين عيد الشيعة، اضافة الى أنها ثقافة وتراث واعتقاد، يجب أن تحترم من بقية المذاهب والمكونات الأخرى كإحترام الشيعة لثقافتهم وتراثهم وإعتقادهم، وأن يكون الاحترام متبادلا في جميع الأحوال والظروف وإلا فالمشكلة تظل قائمة.
هذه واحدة من قراءات التأريخ لمسيرة تناحر المذاهب العقدية في مابين السنة والشيعة، وبين الاكراد والشيعة، وبين السنة والاكراد على حد سواء، فبات كل مكون من هذه المكونات يلتقي ويختلف مع المكونين الآخرين بحسب القضايا العقدية مرة والسياسية أو الاجتماعية مرة أخرى وهكذا، فشكلت تلك القضايا أنساقا مختلفة، تختلف باختلاف المكونات، تتخذ كموروثات وظواهر تاريخية متنافرة مرة، ومتقاربة مرة أخرى ويحسب المصالح التي تمليها كل مرحلة، ومن هذا المنظور تشكلت الهويات والقضايا والمصالح والذوات والمناهج، وهي أيضا مختلفة فيما بينها تماما كاختلاف القضايا والالوان.
وهذه العوامل بطبيعة الحال ترمي بظلالها على طبيعة الوحدة والتعايش الأهلي والتوافق النفسي والاجتماعي، ولايستطيع أحد مهما كانت قدرته وقوته في التأثير بأن يخترق تلك الحواجز والحجب النفسية لتلك المكونات للتأثير عليها وتطويعها لإعتناق الوحدة الوطنية والتعايش، إلا إذا كانت قسرية أوعن طريق ممارسة القوة.
ربما يهتدي بعض الناس للوحدة الطوعية بعد أن يتنازل بعض السياسيين المتأزمين قليلا عن مواقفهم المتشنجة واختلافهم العميق، والعمل بشكل جدي للتثقيف على الوحدة والتعايش والتعارف وزرع روح المحبة والإخلاص وحب الوطن وعدم رفض الآخر، ومن أجل تحقيق هذا المطلب، عليهم أن يغيروا مابأنفسهم للذوبان ضمن كيان ومحيط المصلحة العليا للوطن.
أو إذا لم تتحقق هذه أو تلك، -اقصد الوحدة القسرية أو الطوعية-، فعلى السياسيين أن أن يركنوا إلى ركوب موجة ” الخيارات الاخرى” بما يلزمون به أنفسهم، وعليهم الوزر، ومسائلة التأريخ الذي لايرحم، وعليهم أن يتحسبوا لطائلة حساب الأثر الذي يدون في ذاكرة ثقافة هذه الأمة.
“فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون”.