22 ديسمبر، 2024 10:14 ص

الخليل.. أسطورة كنعانية مستمرة

الخليل.. أسطورة كنعانية مستمرة

لا يستطيع أحدنا خاصةً اليوم أن يعتمد على رؤية ٍ أو وجهة نظرٍ واحدة أو قراءةٍ معينة للتاريخ، بل يتطلب ذلك جهداً كبيراً وانفتاحاً ومرونةً في البحث عن المصادر الموثوقة ومقارنتها ببعضها وتحري الدقة والموضوعية في التوصل إلى أي معلومة، وعندما نتحدث عن تاريخ بلادنا يشوب حديثنا الكثير من العاطفة، لكن من المؤكد أن لدينا الكثير لنقرأه ونتعلمه ونبحث فيه، لذا ستكون جولتنا اليوم في مدينة الخليل الفلسطينية الجميلة،والتي تحمل العديد من المفاجآت، فهذه المدينة العريقة تعد من أقدم مدن التاريخ وأكثرها قدسية،وكان من المعروف أن حضارتها تزيد عن ٦٠٠٠ عام، لكن بسبب أهمية هذه المدينة وتوافد الباحثين والأكاديميين عليها للتنقيب عن آثارها،تم العثور على موقع (تل مرسم) الأثري والذي يعود تاريخه إلى ١٠,٠٠٠ عام، ويقع غرب مدينة الخليل، وهو أقدم الآثار وأهمها في فلسطين، وهذا يجعلها تقارب في عمرها مدينة أريحا الفلسطينية وهي أقدم المدن في تاريخ البشرية، وهذا الموقع هو جزء من سلسلة مدن كنعانية قديمة، وقد كان معبراً وممراً تجارياً يربط بين المدن الفلسطينية، وقد بنى أهلها أسواراً سميكة وضخمة وعالية، بسمك ثلاثة أمتار وربع المتر كانت تحيط بالبلدة، إضافة إلى أبراج بارتفاع عشرة أمتار وعرض ثلاثة أمتار، تمكّن السكان بواسطتها من صد غزوات المهاجمين من كافة الجهات، وكانوا يحتاطون لفصل الشتاء بتخزين القمح الأخضر (الفريكة)، موضحا أن أحد المُنقبين الأميركيين وجد جرات مليئة بهذا القمح، ويزيد عدد المواقع الأثرية والتاريخية في مدينة الخليل عن ٣٠٠ موقع أثري، من أصل ١٧٠٠ موقع داخل الضفة الغربية فقط بمعزل عن بقية المدن الفلسطينية المحتلة..

وقد كانت الخليل مدينة مترفة بناها الكنعانيون وهم أول من استوطنها، وكان اسمها (قرية أربع) جاء نسبة إلى ملك كنعاني اسمه أربع، وينتمي إلى العناقيين الذين وصفوا في المراجع الدينية والتاريخية بالجبابرة، وهم شعب ضرب بهم المثل في ضخامة بنيانهم الجسدي وقوتهم وطولهم، وسكنوا الخليل وهم قبيلة جاء اسمها من جدها الأكبر “عناق بن أربع”، وتم ذكرهم في الإنجيل وبعض الكتابات المصرية القديمة، ووجد ذكر لهم كتعاويذٍ ولعناتٍ على بقايا جرارٍ فخارية محفوظة في متحف برلين، وكتبت كنوعٍ من السحر الذي قصد به تدميرهم من قبل أعدائهم، كما ذكروا في أحد الألواح المسمارية التي اكتشفت في آشور، وقيل أن اسمها جاء نسبةً إلى اتحاد أربع قرى كنعانية، وسميت لاحقاً ب حبرون، وتوالى عليها الآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون، والعرب المسلمون، واتخذت اسم “الخليل” بعد هجرة النبي إبراهيم إليها من مدينة أور السومرية وسكنه في منطقة “الحرم الإبراهيمي” والذي بني على “مغارة مكفيلا”، ودفن فيه النبي إبراهيم وزوجته سارة وابنهما اسحاق وحفيدهما يعقوب، كما أن السور الذي يحيط به هو من بقايا بناء بناه هيرودس الأدومي، والشرفات التي بنيت فيه بنيت على الطراز العربي الإسلامي، كما كان الآموريين من سكانها الأوائل، وكان من أهم الإكتشافات الأثرية في تل الرميدة لوحٌ مسماري عبارةٌ عن نصٍ اقتصادي يضم أسماء أربع شخصيات آمورية إلى جانب جرار فخارية تحمل إسم المدينة..

يربط الخليل طريق رئيسي بمدينتي القدس وبيت لحم، وتقع على الطريق الذي يربط بلاد الشام بمصر، مروراً بسيناء وقد بنيت على سفحي جبلي الرميدة وجبل الرأس، وهي ثاني أكبر مدينة في فلسطين التاريخية بعد مدينة غزة، وتكثر في ضواحيها عيون الماء وسكان هذه المدينة اليوم هم من أصول متعددة عربية وسورية وتركية وكردية ومغربية إضافة إلى مختلف المدن الفلسطينية، وتتضح تعدديتها في أسماء العديد من معالمها والتي تشير بشكل واضح إلى فئة أو عرق بعينه مثل حارة الأكراد وحارة اليهود، وسوق الخواجات وسوق المغاربة، وتقسم الخليل إلى منطقتين هما البلدة القديمة والجديدة،وتحوي البلدة القديمة آثاراً رومانية وبيزنطية وأموية وصليبية ومملوكية وعثمانية، وعرفت الخليل كمدينة زراعية اشتهرت بزراعة الحبوب والخضار والزيتون والتين واللوز والمشمش والعنب وهو من أشهر منتجاتها ومحاصيلها اضافةً إلى الفواكه الأخرى..

كما اشتهرت بأنها مدينة صناعية منذ القدم، بل إن بعض حاراتها القديمة وأسواقها سميت بأسماء بعض الحرف مثل سوق الحصرية (نسبة إلى صناعة الحصائر)، وسوق الغزل، وسوق السكافية (نسبة إلى الإسكافيين)، وسوق اللبن، وسوق الخضار، وحارة القزازين (نسبة إلى صناعة الزجاج في الخليل)، وحارة قيطون (حيث كان يقيم عمال القطن) وظلت حتى عام ١٩٧٨ تضم أكثر من ثلث الصناعات في الضفة الغربية، وتنتشر فيها الصناعات اليدوية المتوارثة عبر الأجيال والتي ميزت الخليل كمدينة تاريخياً، ومن أشهر صناعاتها صناعة القناديل والزجاج الملون على مستوى دولي فشاركت عام ١٨٧٣ في ڤيينا في المعرض العالمي للصناعات، وصناعة الخزف والفخار والصابون والذين تعود بدايتهم إلى تاريخ المدينة القديم، الى جانب دباغة الجلود وصناعتها وصناعات مثل الملابس والنسيج والأحذية ومناشير الحجر والرخام والبلاط، وصناعة الحديد والألومنيوم والصناعات الخشبية والأثاث والسجاد والعطور، والدراجات الهوائية والنايلون والمنتجات الغذائية والألبان، وصناعة الأدوات الكهربائية والمعدنية والورق..

وقد كانت أبنية الخليل مبنية من الحجر الكلسي المستخرج من الجبال المحيطة بها، وكان للمدينة عدة أبواب تغلق ليلاً منعاً للتواصل مع باقي المقاطعات وحفاظاً على الأمن والسكينة، ويتناقل في بعض الحكايات الشعبية أن أسوار المدينة وحصونها بناها الجن..
ونتيجة ً لكونها مدينة صناعية مهمة في فلسطين مارست الصناعة منذ القدم، كانت أيضاً مدينة مهمة تجارياً وممتلئة بالأسواق والمراكز التجارية في مختلف أنحائها، ويشتهر تجارها بالبراعة والمهارة..

كما أن الخليل من المدن التي حافظت على طابعها التقليدي في جوانب كثيرة، واحتفظت بنمطها المعماري خصوصاً في البلدة القديمة والتي شيدت تاريخياً على “تلة الرميدة” المغطاة بأشجار الزيتون، ويظهر هذا النمط بوضوح في الأبنية والمدارس والحمامات الشعبية والقناطر والبرك والأسبلة وقنوات المياه والتكايا ودور العبادة والأسواق القديمة، ويعود تاريخ الكثير منها إلى العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني، وواجهت المحاولات المستمرة لتغيير طابع المدينة المميز من قبل سلطات الإحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج ومتعمد، مما جعل منطقة الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة في مدينة الخليل تدرج على قائمة التراث العالمي لحمايتها من المصادرة وتغيير المعالم لهذه الأماكن التاريخية وتصنيفها كموقع فلسطيني في السابع من تموز/ يوليو عام ٢٠١٧ باعتبارها منطقةً محمية بصفتها موقع يتمتع بقيمةٍ عالمية استثنائية، مما دفع “اسرائيل” لتخفيض مساعدتها لمنظمة اليونسكو لأدنى مستوى، ويأتي التصويت بعد شهرين فقط من إصدار يونيسكو قراراً آخر حول القدس يلغي علاقة اليهود بحائط المبكى واسمه الأصلي “حائط البراق” الذي يعد أقدس الأماكن التي يسمح لليهود بالصلاة فيها واعتباره منطقة دينية تابعة للمسلمين، وجزءاً لا يتجزء من منطقة الحرم التي تضم المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة المشرفة..

ومما لا شك فيه أن وضع مدينة الخليل اليوم هو قاسٍ وصعب بسبب سياسات الإحتلال الإسرائيلي والإستيطان واقتطاع الأراضي والتمييز والفصل العنصري تجاه الفلسطينيين وهم سكان البلاد الأصليون، إضافةً إلى ملأ المدينة بالحواجز ونقاط التفتيش وتشديد القيود على الفلسطينيين للوصول إلى الأماكن الدينية بشكل خاص، وعدم توفير أي حماية لهم كما حدث في مجزرة الحرم الإبراهيمي عام ١٩٩٤ من قتل ل ٢٩ شخصاً وإصابة عدد كبير عندما أطلق عليهم الرصاص وهم يصلون على يد المستوطن الإسرائيلي باروخ جولدشتاين داخل الحرم الإبراهيمي..

ولكن تظل الخليل رغم ذلك واحدة من أهم وأجمل وأعرق المدن الفلسطينية والعالمية وأكثرها ثقافةً وحضارةً وتميزاً وصموداً..فلم تنحني على مدار التاريخ لتثبت ببسالة أهلها أن الأساطير الكنعانية لم تنتهي بعد..